التقت والدها في أروقة محاكم دبي بعد 17 عاماً
تاريخ النشر: 27-مايو- 2012
التقت والدها في أروقة محاكم دبي بعد 17 عاماً
لم تتوقع الفتاة ذات السبعة عشر خريفا أن تلتقي والدها بعد هذه السنوات الطويلة، كانت سنواته خريفا بكل ما تعنيه الكلمة.. كبرت بعيدة عن عينيه، وعن حضنه الدافئ، وعن حنانه ورعايته، فالاب لم يكن يرغب في أن يمر بتجربة تُفطّر قلبه وتُدمي مقلتيه، لكن مرت الأيام بطيئة وباردة على الطفلة الصغيرة التي لم تجرؤ يوما أن تتغنى بكلمة _ بابا _، كانت تخشى أن تنطقها أمام أمها أو جدتها، أو أن تسأل عنه، حتى حينما كانت تقبع مع نفسها كانت ترتجف إذا همست بها.
حاولت أمها وجدتها عبر هذه السنوات أن تنسياها والدها، حاولتا جاهدتين أن تبعداها عنه، وقد كان لهما ما أرادتا، 17 عاما لم تر والدها، ولم تعانقه، ولم تقبّل يديه، ولم تجهز له طعاما، أو تساعده في ترتيب حوائجه أو قضائها، فالحقد وحده كان المسيطر على الجميع في بداية فراق الزوجين، أضف إليه شغب الجدة ودهاءها، وكعقوبة من الأم والزوجة قررتا معاقبة الأب.
إثر خلاف نشب بينه وبين زوجته قررا فك الارتباط، واقتنعا بأنهما وصلا إلى طريق اللاعودة، حرقا ماضيهما، وقطعا ما تبقى من أوصالهما، وباتا على خصام مع الماضي، فكان أن تزوجت الأم، وتزوج الأب، وتكفلت الجدة بتربية الصغيرة تناوبا مع الأم.
واستطاعت الصغيرة تجاوز محنتها أو هكذا شُبّه لها، وعندما بلغت سن الثانوية العامة احتاجت لأوراق والدها، فقصدت المحكمة برفقة جدتها كي تحصل على صورة جوازه، كونها تجهل مكانه وزمانه وربما شكله، فاستقبلهما المصلح الاجتماعي عبد السلام درويش رئيس قسم الإصلاح الأسري بمحاكم دبي واستمع للجدة وللفتاة بعناية وبصمت، ودون أن يسأل، وعلم أن الفتاة لم تتواصل مع والدها منذ سنوات طويلة، وأنها لا تعرف عنه شيئا، وتأكد من حدة الجدة أن مشكلة فرقتهما، وأنها من تكفل برعاية الفتاة حتى كبرت.
الاتصال بالأب
درويش اتصل بدوره بالأب بدعوى تجديد بياناته وأوراقه الثبوتية، وطلب منه زيارة المحكمة، والتقى به في مكتبه، رجل ذو وقار، هادئ، متزن، _ هكذا وصفه المصلح _ أحس الأب بشيء ما خلال الحوار الذي دار بينه وبين المصلح الاجتماعي، قصّ عليه القصة، وأخبره كيف ألزمته الجدة والأم على فراق ابنته، وكيف أخفياها عنه طيلة سنوات، ومنعتاه من رؤيتها بحجج كثيرة، واعترف أنه لم يعمل المستحيل كي يلتقي بابنته.
في تلك الأثناء وهما في التفاصيل سُمح لفتاة بالدخول عليهما، "تفضلي" قال المصلح، شكرا: تفضلي بالجلوس، يبدو أن الأمر سيأخذ شيئا من الوقت ردت قائلة، نعم الأمر سيُلخص 17 عشر عاما، التفتت الفتاة، لم تفهم إلى ما يرمي المصلح من لمزه، تململت غير مكترثة، ساد جو من الصمت، انقطع الرجل عن الحديث، أحس بقشعريرة تسري ببدنه، بتيار كهربائي يصعقه، شاهد وجهها، تفحص ملامحها، عينيها، يديها أناملها، فمها، تأكد أنها ريحانته التي غاب عنها طويلا، لم يسعفه الكلام للحظات، الفتاة تضايقت من نظرات الرجل التي لم تستطع تصنيفها، المصلح لم يتكلم، ماذا تريد استاذ عبد السلام؟
تساءلت، لا شيء فقط أريد أن أعرفك بوالدك، في تلك الأثناء لم يستطع الأب إمساك دموعه، حيث بعد تأكده من أنها ابنته رافق التأكد دموعا غزيرة. أجابت الفتاة والدي!! مستهجنة، لقد نسيني 17 عاما، وكيف له أن يذكرني يا استاذ؟ رسمته مرات ومرات على دفاتري المدرسية ومسحته، لم يمد يده لي، افتقده في كل حياتي، في المحن التي مررت بها، لم أسمع منه نصيحة، أو قصة، لم يدفع لي رسوم المدرسة، أو ثمن الملابس، أو حتى ثمن الدواء، أو الطعام أو إيجار السكن، هذه هي الحقيقة يا استاذ عبد السلام، رد المصلح:
لا تظلميه أيتها الصغيرة، ولا تكوني قاسية عليه، فربما إذا سمعك يحزن منك وإذا سمعته تعذريه، قالت الأفضل لي ألا أراه، تمتم، كيف وقد رأيته، التفتت الفتاة لترى الرجل الوقور، وقد سالت عيونه دمعا، أحست بشيء ما يسري في جسدها، بتدفق الدم في عروقها، وسرعة النبض في قلبها.
عند اللقاء
اضطربت حركتها، رغبت الخروج من المكتب، منعها المصلح، "قابلي والدك بشجاعة أيتها الفتاة"، نهرها بصوت فيه حدة، هذا والدك مهما حصل، وانت ابنته مهما كان، واسمعي منه لعلك تغيرين وجهة نظرك عنه، امنحي لنفسك للمرة الأولى أن تنسي أن تنصتي علّ من نقل لك كان غير محايد، استطاع المصلح بحنكته إجلاس الفتاة، الجدة في الخارج أحست بأن شيئا ما أخّر فتاتها، لم تكن على علم بما يجري في الداخل، تسترق النظر من خلف الزجاج المظلل، فيبدو لها ظل الفتاة، وعلى الكرسي المقابل خيال رجل يرتدي الزي الوطني، بملامح غير واضحة.
التقيا إذا في محاكم دبي، وعلى يد أحد مصلحيها الاجتماعيين وبسبب أوراق والدها، بعد دقائق من الحديث مع والدها علمت أنه كان يدفع لها جميع مصاريفها المدرسية ونفقتها شهرا بشهر، سمعت أنه كان يُودع في أحد البنوك وفي حساب خاص باسمها، مبلغا لها.
حيث قارب المبلغ الذي جُمع 90 ألف درهم، وأنه كان يعلم أنه سيراها يوما ما، وبأنه كان يسأل عنها عن بُعد ويطمئن عليها، هدأت روعة الفتاة بعد سماعها ما سمعت من والدها، وأحست بأن شيئا ما حجب عنها الحقيقة، وأنه ليس كما ذُكر عنه، وأنه لم ينسها يوما، قبّلت الفتاة يد والدها، ورأسه، وقبل الوالد أنامل صغيرته وعينيها، التي لم يقبلهما منذ 17 عاما.