بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإسلام أبعد ما يكون عن روح الانتقام ومنطق الانتقام، فضلاً عن الانتقام الأعمى الذي لا يعرف الضوابط والحدود، كما رأينا في تصرفات دول عصرية كبرى، وما نزال نرى في عالمنا البائس هذه الأيام
الإسلام في تعاليمه النظرية، وفي تطبيقاته العملية كما جسّمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم ومن اتبع هداه على توالي العصور، يسمح بالقصاص العادل، ولا يسمح بالانتقام الذي يتجاوز بصاحبه حدود العدل والإنصاف والخلق الكريم
فالمسلم بين خيارين هما خيار العدل، وخيار الإحسان والصفح، مهما كانت قوته وقدرته
وتَجَاوُزُ العدل إلى الطغيان والظلم، تجاوزٌ لحدود الإسلام، ولو كان خصمه من أعدى أعداء الإسلام:
روى ابن هشام في سيرته أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم خرج في غزوة أُحد -التي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم من القتل والجراح والحزن- يلتمس "عَمّه" حمزة ابن عبد المطلب، فوجده ببطن الوادي قد بُقِرَ بطنُه عن كبده، وَمُثِّلَ به، فَجُدِع أنفُه وأُذناه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم حين رأى ما رأى:
-لولا أن تحزنَ صفية(4) ويكونَ سُنّةً من بعدي لتركتـُه حتى يكونَ في بطون السباع وحواصل الطير، ولَئِنْ أظهرنيَ(5) اللَّه على قُريْش في موطن من المواطن لأُمَثِّلَنَّ بثلاثين رجلاً منهم!
فلمّا رأى المسلمون حزن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وغَيْظَه على من فعل بعمه ما فعل قالوا:
-واللَّه لَئن أظفرنا اللَّه بهم يوماً من الدهر لَنُمثّلَنّ بهم مُثْلةً لم يُمَثِّلها أحد من العرب.
فأنزل اللَّه في ذلك من قولِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وقولِ أصحابه:
أيْ: إن عاقبتم المشركين على ما صنعوه بكم، فعاقبوهم بالعدل ولا تتجاوزوا ما لقيتم منهم، ولئن صبرتم عن الانتقام فلم تنتقموا، فالصبر والعفو خير للصابرين، وهذا خطاب لجميع المؤمنين، أما الرسول صلى الله عليه وسلّم، وهو الأسوة والقدوة؛ فقد أُمِرَ بالصبر وترك الانتقام، ولم يُتْرَك له الخيار: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّه)) وتوفيقِ اللَّهِ وعونِ اللَّه
وفي غزوة بدر التي فَرَق اللَّه بها بين الحق والباطل:
في غزوة بدر كان في جملة أسرى المشركين كبيرٌ من كبرائهم: سُهَيْلُ بن عمرو، وكان سهيلُ بن عمرو خطيباً مبيناً، وكان لسانه أشدّ على المسلمين من وقع السيوف وطعن الرماح
فلما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عنه فرح لأسره، وانبعث في نفسه خاطر عجيب ينتقم به منه، ويحمي به المسلمين من شرّه -إن عاش- للمستقبل، فقال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم:
- يا رسول اللَّه! دعني أنزع ثَنِيّتي(6) سهيل بن عمرو، ويَدْلَعُ لسانه(7)، فلا يقوم عليك خطيباً في مَوْطِن أبداً؛ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم:
- «لا أُمَثِّل به، فَيُمَثِّل اللَّهُ بي وإن كنتُ نَبيّا»
ما الذي حمى سهيل بن عمرو من نَزْع ثنيّتيه، وأن يُمَثَّلَ به هذا التمثيل الأليم، وهو أسير ذليل لا حَوْلَ له ولا طَوْل؟
ما قَدَّمَتْه يَداه للمسلمين في مكة؟! ولم تُقَدِّمْ يداه للمسلمين في مكة إلا الشرّ
قومُه، وسلاحُ قومه، واستكبارُهم وجبروتهم..؟!
لقد انهزم قومه شرّ هزيمة وتحطمت سيوفُهم ورماحُهم في بدر، وصارتْ أنوفُهم في الرَّغام
ما الذي حمى سهيل بن عمرو، ولم يعد له من يحميه من المسلمين المنتصرين؟
لقد حماه إيمانُ المسلمين، ومبادئُ المسلمين، وتعاليم دينهم العظيم، وخُلُقُ رسولهم العظيم، ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) -القلم: 4-؛ فلا انتقامَ هنا، ولا تعذيب ولا تمثيل، ولكنْ غَلَبةٌ لروح الهداية في نفوسهم على رغبة الانتقام والإيلام، وأملٌ في أن يشرق نور الحق في قلوب أعدائهم وخصومهم في يوم من الأيام
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم لعمر معبراً عن هذا الأمل، كما رُوِيَ في بعض السِّيَر:
- « إنّه-أي: سهيل بن عمرو-عَسَى أن يقومَ مقاماً لا تَذَمُّه» وقد كان، بعد أن هداه اللَّه للإيمان
أمّا الموقف التاريخي الخالد العظيم الذي يُجلّي الباطلَ والكذبَ الفاضح في اتّهام الإسلام بأنّه دين الانتقام.. فذلك هو موقف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم عند فتح مكة
لقد دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم مكة بجيش كبير لا قِبَلَ للمشركين بمقاومته، واجتمعت قريش عند الكعبة مستسلمة عاجزة، تنتظر حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فيها، وهي التي كذبته وآذته ونكلّت بالمستضعفين من أصحابه، وناوأته وحاربته أكثر من عشرين سنة، وقتلت من قتلت من أصحابه وأحبابه وذوي قرباه
وقفت تنتظر مستسلمة عاجزة حكم الرسول، وهي تستحضر ما أصابه، وأصاب المؤمنين معه، على أيديها من المصائب والأهوال
وقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم على باب الكعبة فخطب خطبته الخالدة:
وهكذا يَتَّضِح لكل منصف عَبْرَ العصور أنّ الإسلام لا يعرف الانتقامَ الشخصيّ، ولا يُقِرُّ الانتقام الشخصيّ، وأنّ المسلمين المخلصين الواعين لدينهم، المتّبعين لرسولهم، لا يجوز لهم أن يتحركوا بدوافع الحقد والانتقام، ولكن يجب أن يتحركوا بدوافع الإيمان والهداية والواجب، والحرص على خير البشر جميعاً في الدنيا والآخرة
روى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال:
فهل بعد ذلك-أيها الإخوة-ما هو أدلّ على رفض الإسلام لروح الانتقام الشخصيّ على حساب الحق والواجب؟
* * *
وبعد، فالإسلام يعرف القصاص العادل من أجل الحياة كما قدمنا ((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) -البقرة: 179-
ولكنه لا يعرف الانتقام الظالم، لا الأعمى ولا المبصر، ولا يمتُّ إليه هذا الانتقام بسبب من الأسباب