هذا من حيث المكان
مبـدأ إقليميـة القوانين
إن الدولة المعاصرة لا يمكن أن تجعل لقانونها اختصاصا مطلقا competence exclusive بل تفسح المجال لتطبيق القوانين الأجنبية وفق ما تقتضيه حاجة المعاملات الدولية، فهي لا تستطيع أن تعتنق مبدأ الإقليمية المطلقة الذي يجعل حدود سيادتها كحاجز يمنع نفاذ القوانين الأجنبية على إقليمها، كما ساد في عهد الإقطاع؛ إذ جذور هذا المبدأ تعود إلى ذلك العصر، حيث كانت تنفر كل الدول من كل ما هو أجنبي، و ترفض تطبيق القوانين الأجنبية بحجة أنها تمس بسيادتها حتى لو تعلق الأمر بعلاقات أجنبية محضة.و بقي هذا المبدأ ساري المفعول إلى عصرنا الحاضر، فيطبق قانون الدواة على كل من يتواجد على إقليما سواء كان وطنيا أو أجنبيا المرجع[1]، فإذا قلنا مثلا أن القانون الجزائري قانون إقليمي فمعناه أنه يسري على كل شخص موجود على الإقليم الجزائري بغض النظر عن جنسيته، أما ما يقع خارج التراب الجزائري فيخضع لقانون الدولة الأجنبية، حتى لو تعلق الأمر بجزائريين.
و مبدأ إقليمية القوانين يقوم على أساس سيادة الدولة على إقليما، إذ لا تتحقق هذه السيادة إلا عن طريق بسط سلطان قانونها داخل إقليمها على الوطنيين و الأجانب على حد السواء. فضلا عن أن هذه السيادة تتنافى البتة مع وجود قانون أجنبي ينازع قانونها و يدعى الاختصاص على إقليمها.[2]
- مجال تطبيق مبدأ إقليمية القوانين
إن أفسح مجال لتطبيق مبدأ إقليمية القوانين هو القانون العام الذي يبرز فيه جليا عنصر سيادة الدولة. لذا نجد كل فرع من فروع القانون العام يطبق تطبيقا إقليميا كقاعدة عامة
كالقانون الجنائي و القانون الإداري و القانون المالي و قانون النظام القضائي، و قوانين المرور...
و لكن على الرغم من ذلك فإن مجال مبدأ إقليمية القوانين لا يقتصر على القانون العام فحسب بل نجده أيضا في مجال القانون الخاص كالقوانين المتعلقة بالحيازة و الملكية و الحقوق العينية و القوانين المتعلقة بشكل التصرفات القانونية أو القوانين الخاصة بالعمال...
و كل هذا يعود إلى أن هذه القوانين تتعلق بالنظام العام للدولة، و لذا يجب أن تطبق تطبيقا إقليميا.[3]
-1-
- الاستثناءات الواردة على مبدأ إقليمية القوانين
ترد على مبدأ إقليمية القوانين بعض الاستثناءات، فتحد من تطبيق قانون الدولة على إقليما أو تمد تطبيقه إلى خارجها و هي:
1- إن الحقوق و الواجبات التي ينص عليها الدستور، تطبق تطبيقا إقليميا بالنسبة للمواطنين فحسب، و لا تطبيق على الأجانب، كحق الانتخاب و حق الترشيح، و حق تولي الوظائف العامة، و إن كان هذا الأخير قاصرا أصلا على الوطنيين؛ و إذ أبيح للأجانب يكون ذلك على سبيل الاستثناء. أما الواجبات كواجب الدفاع عن الوطن وواجب الخدمة الوطنية.
2- يستثني من مبدأ الإقليمية ما يقرره القانون الدولي العام لبعض الأجانب، كالممثلين الدبلوماسيين و القناصل الذين يتمتعون بالحصانة القضائية و من ثم فلا يخضعون لقانون الدولة التي يوجدون على إقليمها و التي يمارسون فيها مهامهم كما أنهم لا يخضعون لولاية قضائها.
3- أن حاجة المعاملات الدولية تقضي بضرورة الأخذ بقواعد القانون الدولي الخاص أو ما يسمى بقواعد الإسناد، إذ تسند العلاقات القانونية التي تشتمل على عنصر أجنبي إلى القانون المختص أصلا بحكمها.[4] و قد يؤدي هذا إلى تطبيق قانون أجنبي على إقليم الدولة؛ و من ثم يعد خروجا أو استثناءا على مبدأ إقليمية القوانين.
4- الاستثناءات على مبدأ إقليمية قانون العقوبات:
الأصل أن يطبق قانون العقوبات على جميع الجرائم التي ترتكب على إقليم الدولة، أيا كان جنسية أو صفة مرتكبها. و مع ذلك فإن هناك حالات يقرر فيها القانون حصانة لبعض الأشخاص فلا ينطبق عليهم قانون العقوبات بالنسبة للجرائم التي يرتكبونها داخل إقليم الدولة. و هذه الحصانة قد تنشئها قواعد القانون الداخلي أو قواعد القانون الدولي و تحد عليها في اعتبارات المصلحة العامة للمجتمع الوطني أو الدولي
إذا كان الأصل هو تطبيق قانون العقوبات تطبيقا إقليميا نظرا إلى أنه فرع من فروع القانون العام الذي تبرز فيه سيادة الدولة بدليل المادة 3ف1 من قانون العقوبات التي تنص على ما يلي:
«يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي ترتكب في أراضي الجمهورية.»
غير أن هذه السيادة تتدعم و تبرز جليا بالخروج عن هذا المبدأ، إذ يمتد قانون الدولة خارج إقليما كلما ارتكبت جرائم في الخارج و كان من شأنها المساس بأمن الدولة أو باقتصادها، مهما كانت جنسية مرتكبها أي سواءا كان وطنيا أو أجنبيا. و هذا ما قضت به كل من الفقرة الثامنة من المادة 3 من قانون العقوبات بقولها: «كما يطبق على الجرائم الني ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجزائية.»
-2-
و تدعم هذه الفكرة كل من المادتين 583-582 من قانون العقوبات. أما المادة 588 من نفس القانون فتنص على ما يلي: «كل أجنبي ارتكب خارج الإقليم الجزائي بصفة فاعل أصلي أو شريك، جناية أو جنحة ضد سلامة الدولة الجزائرية تزييفا لنقود ا أو أوراق صرفية وطنية متداولة قانونا بالجزائر، تجوز متابعته و محاكمته وفقا لأحكام القانون الجزائري إذا ألقي القبض عليه في الجزائر أو حصلت الحكومة على تسليمه لها.»
إن جميع هذه المواد تنص على امتداد قانون العقوبات الجزائري إلى الخارج و نشير إلى أن امتداد قانون العقوبات يرجع إلى خضوعه لمبدأ الشخصية و هو من المبادئ القديمة، بل إنه الأصل في تطبيق قانون العقوبات و له وجهان وجه إيجابي ووجه سلبي.
الوجه الإيجابي: و هو ما يسمى بالشخصية الإيجابية و يعني تطبيق النص العقابي على كل جريمة فيها اعتداء على مصلحة وطنية مهما كانت جنسية المتهم أو مكان ارتكاب الجريمة، ذلك لأن القانون وضع لحماية المواطنين و ممتلكاتهم، و كذلك لممتلكات و لمصالح الدولة، و هذه الحماية واجبة للكل، و ضد الكل فهناك تضامن بين مصلحة الدولة و مصلحو كل فرد من رعاياها حتى لو حصل الضرر لأية مصلحة منهما في الخارج.
هذا و يطلق الفقهاء عادة على مبدأ حماية مصالح الدولة عبارة «عينية النص» أو «الاختصاص العيني» أو «التطبيق العيني للقانون»[5] إذ ينظر فيه إلى نوع الجريمة المرتكبة، و لا ينظر فيه إلى مرتكب الجريمة أي إلى الشخص ذاته [6] فيطبق قانون العقوبات على الوطني و الأجنبي على حد السواء كلما وقعت منها مثل هذه الجرائم
-3-
II) مبـدأ شخصيـة القوانين:
باعتبار الدولة المعاصرة عصوا في المجتمع الدولي فإن هذه العضوية تفرض عليها إفساح المجال لتطبيق القوانين الأجنبية فيما يخص العلاقة الدولي أي العلاقات التي تشمل على عنصر أجنبي.[7] و هذا على الرغم من اعتناقها بمبدأ إقليمية القوانين. و يرى جانب من الفقه أن التزام الدولة بذلك يفرضه عليها الدولي، و من ثم يفرضه القانون الدولي الوضعي، و مع ذلك فإن للدولة الحرية المطلقة في رسم حدود تطبيق القانون الأجنبي على إقليمها.[8]
إذا تعتنق الدولة المعاصرة بجانب مبدأ إقليمية القوانين، مبدأ شخصية القوانين الذي يقضي به أن قانون الدولة يمتد و يطبق على رعاياها حتى لو انتقلوا إلى الخارج إذ سيبقى الشخص مرتبطا بدولته ارتباطا وثيقا. وقد نادى بهذا المبدأ الفقيه الإيطالي "مانشيني" و مؤداه أن قوانين كل دولة إنما وضعت من أجل الأفراد المنتمين إلى جنسيتها، و قد رعي في رضعها الاعتبارات الخاصة بهم وحدهم؛ و من ثم فالقاعدة هي سريان قانون الدولة على رعاياها أينما كانوا أي حتى لو كانوا خارج حدودها.[9]
والواقع هو أن مبدأ شخصية القوانين ظهر في العصور القديمة و ساد في المجتمعات آنذاك على أساس النفور من الأجنبي و معاملته معاملة العبد أو العدو. فكان التمييز سائدا و عاما بين الوطني و الأجنبي و كان لا يطبق على هذا الأخير القانون الوطني الذي يعتبر بمثابة امتياز قاصر على الوطنيين فحسب[10] فكان الإغريق مثلا يعتبرون حق التقاضي امتيازا مقصورا على الوطنيين. أ ما الرومان فكانوا يعتبرون تطبيق القانون المدنيLe jus civitatus امتيازا يتمتع به المواطنون الرومان فحسب أما الأجانب فكانوا يخضعون لقوانينهم الشخصية.
إذا كان مبدأ شخصية القوانين قديما قوم على أساس عدائي. فقانون الدولة هو امتياز يتمتع به الوطني وحده دون الأجنبي. غير أن تطور المجتمعات الحديثة اقتضى تغيير هذا الأساس الذي يقوم حاليا على المجاملة الدولية التي فرضتها ضرورة المعاملات الدولية[11].
-4-
- مجال تطبيق مبدأ شخصية القوانين:
أن أفسح مجال لتطبيق مبدأ شخصية القوانين هو القانون الخاص، لا سيما الأحوال الشخصية (من الزواج و نفقة و طلاق و ميراث…) إذ تميل الدول المعاصرة إلى اتجاه واحد هو إخضاع هذه الأحوال إلى القانون الشخصي و هذا حسما للتنازع بين القوانين من حيث المكان. فتقرر قواعد الإسناد إخضاع الأحوال الشخصية قانون جنسية الشخص أي قانونه الوطني و من ثم فكلما انتقل الفرد إلى الخارج و أجرى تصرفا متعلقا بحالته الشخصية خضع تصرفه لقانونه الشخصي[12]
مجال تطبيق مبدأ شخصية القوانين في القانون العام
يفسح المجال لتطبيق مبدأ شخصية القوانين حتى في مجال القانون العام الذي تظهر فيه سيادة الدولة واضحة، و إن كان تطبيقه في هذا المجال ضيقا، إذ نجده في الحقوق السياسية، و الواجبات العامة التي يقررها الدستور. فتطبق تطبيقا شخصيا بحيث تقتصر على الوطنيين دون الأجانب. و حتى في قانون العقوبات الذي يسود فيه مبدأ إقليمية القوانين، نجد تطبيقا محدودا لمبدأ شخصية القوانين و ذلك عندا يقرر امتداد أحكامه إلى مواطنيه حتى لو كانت الجرائم المنسوبة إليه قد ارتكبت في الخارج و الحكمة في ذلك تعود إلى عدم إفلات المجرم من العقاب[13]
-5-
خاتمـــة
و إذا فنخلص إلى أن الدولة المعاصرة لا يتسنى لها أن تتبنى مبدأ واحد و تترك الآخر لأن ضرورة و حاجة المعاملات الدولية تفرض عليها إفساح المجال لتطبيق القوانين الأجنبية استنادا إلى مبدأ شخصية القوانين و إذ كان هذا المبدأ قد اعتبر مساسا بسيادة الدولة في المجتمعات القديمة. فإن قبول تطبيقه في المجتمعات الحديثة لتسيير المعاملات الدولية دليل على رقي الدولة و على درجة حضارتها لذا فالدولة الحديثة تأخذ بالمبدأين معا و إن كان مبدأ الإقليمية هو الأصل و مبدأ شخصية القوانين هو الاستثناء حتى لو كان قد وجد تعارض بين المبدأين قديما أو كما يقول الأستاذ "إبراهيم الخليلي": «هناك علاقة تعايش سلمي بينها»[14]
-6-
قائمــة المراجــع:
نادية فضيل - دروس في المدخل إلى العلوم القانونية - ديوان المطبوعات الجامعية 1994
د.عادل قورة - محاضرات في قانون العقوبات –ديوان المطبوعات الجامعية 1992
-7-
الفهــرس:
مبدأ إقليمية القوانين.......................................... ........................................ 01
مجال تطبيق مبدأ إقليمية القوانين.......................................... .............................01
الاستثناءات الواردة على مبدأ إقليمية القوانين.......................................... .................02
مبدأ شخصية القوانين.......................................... ......................................04
مجال تطبيق مبدأ شخصية القوانين.......................................... ...........................05
مجال تطبيق مبدأ شخصية القوانين في القانون العام............................................. .........05
خاتمــة........................................... .................................................0 6
قائمة المراجع........................................... ..............................................07
[1]عز الدين عبد الله –القانون الدولي الخاص –الجزء2 تنازع القوانين الطبعة الثامنة 1977 –دار النهضة العربية-ص8-7
[2]هشام القسم –المدخل إلى علم القانون- المطبعة الجديدةـ دمشق 1978 - ص183
[3]خليل أحمد حسن قدادة –شرح النظرية العامة للقانون الجزائري –ديوان المطبوعات الجامعية –ص137
[4]أنور السلطان-المبادئ القانونية العامة –الطبعة الثانية1978 دار النهضة العربية للطباعة و النشر ببيروت-ص162
[5]انظر كمال أنور-تطبيق قانون العقوبات من حيث المكان1965 –دار النهضة العربية –ص175
[6]حبيب إبراهيم الخليلي- المدخل للعلوم القانونية –ديوان المطبوعات الجامعية (النظرية العامة للقانون)-الطبعة الثالثة 1992 –ص146
[7] فؤاد عبد المنعم رياض- الوجيز في القانون الدولي الخاص-الجزء2 تنازع القوانين و تنازع الاختصاص القضائي –دار النهضة العربية1975 ص9-8
[8]عز الدين عبد الله- المرجع السابق –ص 9-8
[9]عز الدين عبد الله- المرجع السابق-ص 53
[10]فؤاد عبد المنعم رياض-المرجع السابق –ص17
[11]حبيب إبراهيم الخليلي-المرجع السابق ص142
[12]توفيق حسن فرج المدخل للعلوم القانونية –الطبعة الأولى 1986 – الدار الجامعية بيروت - ص305
[13]حبيب إبراهيم الخليلي-المرجع السابق ص144-143
[14]حبيب إبراهيم الخليلي-المرجع السابق ص147