العدالة في المجتمع سر أمنه واستقراره ومفتاح تحضره ونمائه ... فلذا قيل عن عمر بن الخطاب بأنه عدل فأمن فنام.
أخي الموضوع جد مهم .... أثار في نفسي خواطر عديدة وأنا اكتبها في هذه اللحظة ولكن اعذرني حيث سأسرد نقاط بينها خيط رفيع متصل علها تثري الموضوع
ذكرت أخي أن على القاضي الجنائي أن يتحقق من الأدلة التي احتواها أمر الإحالةدليلا..دليلا ..بكل ما يملك حتى يصل إلى مرحلة الاطمئنان من المتهم مذنب أو بريء. فيما يخص هذا المبدأ... قناعتي أن القاضي الجزائي لابد أن يصل إلى مرحلة الاطمئنان بالنسبة إلى الإدانة .... إذ الإحكام الجزائية بالإدانة تبنى على اليقين لا على مجرد الظن والتخمين. وتستند إلى البرهان لا القول الرنان،
أما في حالة البراءة فنفسية القاضي على وجهين لا ثالث لهما إما أن يتوثق من براءته فيحكم بها وإما تكن نفسه حائرة بين الإدانة والبراءة، فالشك هنا يفسر لمصلحة المتهم. وربما كان السند انه لان يخطأ القاضي في العفو خير من أن يخطأ في العقوبة. وكما نعلم أن النيابة العامة لو تشككت في إدانة متهم (بنسبة 60%) فإنها تحيله إلى المحكمة أما القاضي لو كنت نسبة تشككه في صحة ااسناد التهمة إلى المتهم اقل من تلك النسبة (فرضا 20) فله أن يقضي بالبراءة وهو غير ملزم بتتبع الأدلة دليل دليلا.
أنا اتفق معك من الناحية النظرية أن على القاضي أن يتفحص الأدلة واحدا تلو الآخر ويتفحص في المقابل الدفع تلو الآخر وان لم يلزم به قانونا وفق قواعد التسبيب ... إذ القضاة قد قسموا يوم القيامة أثلاثا الأول إلى جنة الخلد أم الثلثين الآخرين إلى النار والعياذ بالله
أخي العزيز ... إن رسالة القضاء جد غالية وعظيمة... فهي ليست مهنة تمتهن يكون لمؤديها راتب شهري. وإنما هي رسالة عظمى لحفظ الحقوق وردع الظالم فلا مجال للمراضاة أو المجاملة.... فمما اثر عن عمر بن الخطاب انه عزل قاضيا من منصب القضاء لما علم انه أعطى من جيبه الخاص مالا للمدعي مراضاة له ومجاملة .... لان الفاروق رضي الله عنه أراد إن يوصل رسالة أن القضاء هو حفظ للحقوق وحماية للمراكز القانونية وقطع ليد الظالم ... فمن كان له حق فليقدم البينة عليه فتكون الدولة اليد التي تعيد له حقه.
أخي العزيز تناولت موضوع بطلان الإجراء في واقعة عمر بن الخطاب الشهيرة ولكن أعود فاذكر بواقعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الخصمان فقال عليه السلام "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن لحجته من بعض، فاقضي له على نحو مما اسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا، فإنما اقطع له قطعة من النار" أخي العزيز... تحقيق العدالة ليس رهنا بقاض ... وإنما هي كما في الحديث رهن بالخصوم أنفسهم وفي الوقت الحالي النيابة العامة والمحامين والخصوم.
وهنا أسوق تساؤلا ... هل على القاضي أن يغمض عينه وهو يحمل الميزان... كما هو في تمثال العدالة... من وجهة نظري كلا.... لماذا لا يزيل تلك القطعة عن عينه ليرى ابتداء ما إن كان الميزان مختلا أم لا... لما لا يستوفي من تلقاء نفسه النقص ... فقانون الإجراءات الجزائية الإماراتي أعطى للمحكمة حق استكمال النقص بل أعطى هذا الحق كذلك لمحكمة الاستئناف في المادة 239 وقرر ان لها ان تسوفي النقص في إجراءات التحقيق. ومن ثم فان القاضي لا يكتفي بالنظر الى الميزان بل يتحقق بنفسه من ان المكيال صحيح واستوفيت جميع الاوزان.
وارى على النيابة العامة فيما يخص القضايا الجزائية الدور الأهم ... فعليها أن تستوفي الأوراق فإن تحدث المجني عليه عن شاهد فالأولى أن تسمع أقواله بل لو قرر المتهم أن لديه شاهد نفي فالواجب أن تسمع أقواله... إذ قد يتغير وجه الدعوى ... أما التساهل في الإحالة دونما مراعاة لثبوت الواقعة أو استيفاء القضية فهي مصيبة جلل في الحالتين ... الأولى لو أحال متهم بريئا إلى المحكمة فالفعل بحد ذاته عقوبة... وكذلك الأمر لو أحال مذنبا ولكن لم يستوفي القضية على النحو الأمثل فكانت النتيجة براءته وضياع حق المجني عليه الذي هو بصدد تمثيله قانونا.
ولكن دور القاضي الايجابي لابد ان يجد مجاله من التفيذ... فله جوازا أن يستوفي الاوارق لو تبين أن هناك ثمة قصور ... فيعدل القيد والوصف ويسأل الشهود وينتدب الخبراء .... لتظهر له الحقيقة بجلاء ... ولكن أن يسارع إلى القضاء بالبراءة ملقيا اللوم على النيابة ومرتكزا على حقه في التشكك وان الأصل براءة المتهم او ان التهمة غير صحيحة، دون أن يتذكر أن هناك مجني عليه قد تقدم إلى القضاء مطالبا بحقه ومخولا الدولة في اقتصاص الحق له. فان كان القانون لا يلزمه (اي القاضي) باتخاذ تلك الإجراءات التي تقاعست عنها النيابة العامة إلا أن واجب العدالة يستحثه حثا إلى إلى استيفاء النقص... فمثل هذا التدخل محمود...
وهناك تدخل آخر محمود ... قبل أن أتناوله اذكر بواقعة ماعز وإقراره بارتكاب فاحشة الزنا أمام النبي صلى الله عليه وسلم ... حيث ثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه راجعه في الإقرار –وهذا من وجهة نظري تدخل في القضية مع الوضع بعين الاعتبار أن حد الزنا صنف لدى الغالية بأنه حق لله لا دخل به لحقوق العباد- ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاض هنا عن حالته العقلية ... وهو بحد ذاته تدخل لمصلحته
أما التدخل الآخر فهو ما أشرت له بداية أن على القاضي إلا يقضي بعلمه... وعليه واجب التنحي عن القضية ... وارى أن الحكم في صورته النهاية هو لوحة فنية ترسمها أقوال الخصوم والأدلة والمستندات التي قدموهامع الآخرين للقاضي... اما لو تدخل القاضي اثناء سير الدعوى بشكل صريح فهذا قد يشكك في نزاهته ... كما أنه بذلك قد يفصح عن رأيه في حين ان عليه الاحجام. كما ان مثل هذا التدخل قد يجعل القاضي يتبنى وجهة نظر احد الخصوم ويدافع عنها لا اراديا فينتقل من دائرة الحياد الى دائرة الخصوم...
هناك العديد من النقاط .... واتمنى ان تكون لي عودة أخرى
تقبل مروري اخي العزيز