logo

مشاهدة نتائج الإستطلاع: مامدى جودة هذا البحث؟
جيد
0
0%
مقبول
0
0%
سيئ
0
0%
ممتاز
0
0%
إستطلاع متعدد الإختيارات. المصوتون: 0. أنت لم تصوت في هذا الإستطلاع

إضافة رد
قديم 03-12-2024, 04:07 PM
  #1
هالة عبود
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Mar 2024
المشاركات: 2
Exclamation إعطاء الصيغة التنفيذية للقرارات التحكيمية

يعتبر التحكيم بصفة عامة هو الوسيلة الأولى التي عرفتها البشرية منذ أقدم العصور لحل الخلافات، لما شعر الإنسان بأن القوة الذاتية لا تكفي وحدها لفض المنازعات حيث عرف العرب قديماً وقبل ظهور الإسلام التحكيم، وكان النظام القبلي يحكم كافة العلاقات داخل القبائل والعشائر ويمثل التحكيم فيه المظهر الأول للعدالة في المجتمعات البدائية.
وعند ظهور الإسلام كان التحكيم مظهر من مظاهر حسم الخلافات والمنازعات، وترسخ التحكيم أكثر من ذي قبل ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى قوله تعالى في الآية 65 من سورة النساء (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما).
وفي القرن العشرين ذاع التحكيم وانتشر نطاقه ليصبح قضاءاً خاصاً ينصبه أطراف النزاع بأنفسهم، ولقد اهتم الفقهاء ورجال القانون بتنظيم التحكيم وإقامته على مبادئ معينة وجوهر فكرة التحكيم واحدة سواءاً في النظم القديمة أو الحديثة بمعنى أنه يهدف إلى تحقيق مدى شرعية ادعاءات الخصوم حول مسألة معينة حقاً كانت أو مركزاً قانونياً عن طريق طرف ثالث يتفقان عليه.
وأضحى التحكيم في الوقت الحاضر أهم وسيلة يرغب المتعاملون في التجارة الدولية باللجوء إليها في حسم خلافاتهم الناتجة عن تعاملاتهم، فلا يكاد عقد من العقود التجارة الدولية يخلو من شرط يصار بموجبه إلى اتباع التحكيم عند حدوث نزاع أو خلاف يتعلق بتفسير أو تنفيذ العقد المذكور، ذلك لأن العقود الدولية تختلف عن العقود الخاصة بالتعامل الداخلي باعتبار أن هذه الأخيرة تحكمها قواعد القانون الداخلي، أما العقود الدولية فتكون في الغالب بين أطراف تنتمي إلى دول مختلفة وتختلف قوانين تلك الدول في معالجة القضايا التي تطرح نتيجة الخلاف بين الأطراف( ).
ولا شك أن نجاح التحكيم وذيوع استخدامه لم يعد محلاً للشك، فازدهار أسلوب التحكيم قد واكبه، كما ساعد على تطويره، نشاط الحركة التشريعية في الكثير من الدول من أجل سن قوانين خاصة ترمى من ناحية إلى تحرير التحكيم (بدءاً من الاتفاق التحكيمي ونهاية بحكم التحكيم ذاته) من رقابة الأجهزة القضائية، ومن ناحية ثانية إلى التخفيف عن كاهل القضاء الوطني وتفادي مشاكل اللجوء إليه، كما استهدفت هذه الحركات التشريعية، من ناحية ثالثة ، حث وجذب أطراف المنازعات إلى اتخاذ هذه الدول ذات الأنظمة المتطورة مقاراً لهيئات التحكيم وهو ما يمثل نوعاً من تشجيع الاستثمار غير المنظور في هذه الدول.
هذا النجاح الذي حققه أسلوب التحكيم في مجال العلاقات الدولية لا يعني أن هذا الأسلوب يخلو من نقاط الضعف، فما زالت جوانبه المختلفه وما تطرحه من مشكلات قانونية تنجذب لها أقلام الفقهاء وتتناولها أحكام القضاء وتنشط لتدارسها ووضع الحلول الملائمة لها مراكز التحكيم والمنظمات الدولية المعنية، ولعل من أهم المشاكل القانونية التي حظيت في هذا المجال بعناية ملحوظة هى مشكلة النفاذ الدولي لأحكام التحكيم.
فالثمرة الحقيقية للتحكيم تتمثل في الحكم الذي يصل إليه المحكمون، هذا الحكم لن يكون له من قيمة قانونية أو عملية إذا ظل مجرد عبارات مكتوبة غير قابلة للتنفيذ، فتنفيذ حكم التحكيم يمثل أساس ومحور نظام التحكيم نفسه، وتتحدد به مدى فاعليته كأسلوب لتسوية وفض المنازعات.
يشكل تنفيذ حكم التحكيم خطوة هامة جداً بالنسبة لكفاءة التحكيم. فعندما تلجأ الأطراف إلى التحكيم، فإنها لا تنتظر فقط صدور حكم التحكيم بل تنفيذه أيضاً. ومن ثم فإن التنفيذ يشكل ضمانة ضرورية للطرف المستفيد.
إن كافة القوانين تتضمن حق الطرفين في تنفيذ حكم التحكيم، فبموجب القانون الفرنسي وفيما يخص التحكيم المحلي، ووفقاً للمادة 1477 من قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد، تنص على أن حكم التحكيم لا يخضع للتنفيذ إلا بموجب أمر تنفيذ من المحكمة العليا والتي تصدر حكم التحكيم في دائرة اختصاصها. إن الأحكام التحكيمية الصادرة في الخارج أو في التحكيم الدولي بموجب المادة 1498 من قانون أصول المحاكمات المدنية الجديد سيكون متاحاً تنفيذها في فرنسا في ظل شروط معينة.
ويمكن تنفيذ حكم التحكيم بشكل طوعي أو قسري، وفيما يتعلق بالتنفيذ الطوعي، فإن ذلك هو القاعدة، ويكون عندما تكون الأطراف حسنة النية وبأن حكم التحكيم لم يشوبه أي عيب أو تأثر بأي خلل، إن القانون الفرنسي ومعظم القوانين لا تنص صراحة على التنفيذ الطوعي لحكم التحكيم ولكن المادة 1476 من قانون أصول المحاكمات المدني الفرنسي الجديد، والتي تنص على أن " حكم التحكيم ، وبمجرد صدوره، له سلطة الشيء المقضي به بالنسبة لاتخاذ قرار بشأن هذا النزاع، إن حكم التحكيم وبمجرد صدوره، يمكن تنفيذه طوعاً.
وعلى العكس من ذلك، وبموجب القانون الفرنسي ، فإن المادة 33 من قانون التحكيم تنص صراحة على إمكانية التنفيذ الطوعي لحكم التحكيم.
وفقاً للسيد فيدال، فإن التجربة تبين أن تنفيذ ما يقرب من 85% من الأحكام التحكيمية الصادرة طواعية( ). وذلك يتوقف على طبيعة ونوعية التحكيم والذي يعتبر وسيلة طوعية للأطراف لتسوية خلافاتهم والذي سيقود الطرف الخاسر القبول وتنفيذ حكم التحكيم تلقائياً.
وبالمثل، فإن الطرف الخاسر ينفذ طواعية حكم التحكيم وبمجرد صدوره بسبب اهتمام الرأي العام، والخوف من توجيه اللوم من قبل المجتمع الذي ينتمي إليه ونسب عدم التنفيذ إلى الصعوبات التي تواجهها الشركة( ).
بالإضافة إلى ذلك، فقد استخدم التحكيم بين المتعاقدين وذلك للحفاظ على علاقة تجارية مستمرة، كإجراء تحكيمي يحافظ على ما سبق بدقة. وسيتم تنفيذ حكم التحكيم عندما لا تعتبر الأطراف هذا النزاع إلا حدث عارض وقع في العلاقات التجارية قد يتكرر مرة أخرى. إنهم يقصدون عادة من هذا مواصلة العمل معاً. فكل طرف لديه النية الكاملة في عدم التسبب بالإخلال في التنفيذ فيما بعد، وذلك لأن الخاسر يوماً ما يمكن أن يكون الفائز في يوم آخر.
علاوة على ذلك، فإن ما يميز التحكيم، في هذه المسألة، يتعلق على وجه الخصوص بعمليات التحكيم التعاوني، في بيئة آمنة، سيكون من خلال التنفيذ الطوعي لحكم التحكيم قد تكون قيد الإقناع والضغط ، وحتى العقوبات إذا لم يتم تنفيذ الطرف الخاسر له. فعلى سبيل المثال الغرامات المالية ، أو الجزاءات الأدبية أو المانعة للحقوق. إن وجود هذه العقوبات يضمن مقدماً التنفيذ الطوعي لحكم التحكيم.
إن قبول التنفيذ والإذعان له من الممكن أن يكون صراحة، وتحت أي شكل من الأشكال. ويمكن أيضاً أن يكون ضمنياً. وفي الحالة الأخيرة يعتبر الأطراف قد وافقت على حكم التحكيم من خلال أي فعل يدل بشكل لا لبس فيه عن استعدادها لتنفيذ حكم التحكيم.
وقد أكدت محكمة الاستئناف في باريس هذا المبدأ في قرارها الصادر في 26 من نوفمبر تشرين الثاني عام 1968، حيث نص على أن قبول حكم تحكيم يجعل المعارضة ضد قرار التنفيذ غير مقبولاً، وأن القبول، إن لم يكن صريحاً، لا يمكن أن يصدر إلا عن الأعمال التي تنطوي على رغبة واضحة لقبول حكم التحكيم. وينبغي ملاحظة أن التنفيذ الطوعي لحكم التحكيم يسد مجال الطعن في حكم التحكيم( ).
وأما عن التنفيذ الجبري، فيتم ذلك عندما يقاوم الطرف الخاسر أمر التنفيذ، ساعتها يجب أن يكون الحكم التحكيمي مطبقاً بقوة تنفيذية، ويجب على الطرف الرابح اللجوء إلى محاكم الدولة لإصدار أمر تنفيذ( ).
إن الحاجة إلى تنفيذ حكم التحكيم تنفيذاً جبرياً، يظهر عندما يكون التنفيذ الطوعي أمراً مستحيلاً. وعلاوة على ذلك، فإن حكم التحكيم في حد ذاته ليس له أي صفة تنفيذية مثل الأحكام القضائية والقانونية لأنها صدرت من قبل أفراد عاديين، ليس لديهم سلطة الأمر والولاية.
فإذا كان القانون يعرف بما يتوافر لقواعده من عنصر الالزام فإن التنفيذ الجبري يتصدر مقومات الأحكام والأمر لا يمثل صعوبة – نسبياً - بالنسبة للأحكام الصادرة عن السلطات القضائية بالدولة فالتنفيذ الجبري لها - على الأقل نظرياً - من المسلمات.
أما بالنسبة لأحكام التحكيم فهي في النهاية أحكام صادرة عن أشخاص ليسوا من أعضاء السلطة القضائية ومن ثم لا يملكون حق إصدار الأمر لممثلي السلطة العامة لإجبار الطرف الخاسر على الوفاء بالأداءات التي يرتبها حكم التحكيم فكيف إذن يمكن الوصول لتنفيذ مثل هذا الحكم؟
في الواقع إن تنفيذ أحكام التحكيم وما يفتقر إليه في قوانين بعض الدول من ضمانات الحالات، يثير العديد من المشكلات التي تلقي بظلالها على الوجه المشرق للتحكيم.
ولكن مما يدعو البعض للتفاؤل أنه في غالبية الحالات، ولحسن الحظ، يكون أطراف التحكيم حسنى النية ويعملون على تنفيذ الأحكام الصادرة من هيئات التحكيم المشكلة من قبلهم. (فالودية وليست الندية) التي تحيط بهذا الأسلوب المتطور لفض المنازعات تدفع بأطرافه الذين تحدوهم الرغبة في استمرار علاقاتهم مستقبلاً، إلى تنفيذ أحكام التحكيم، في غالبية الأحيان، طواعيةً واختياراً. ولكن لا ينبغى الإفراط فى هذه النظرة الوردية، فيكفي أن نلقي نظرة على الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الوطنية في الدول المختلفة لكي نؤكد على أن مشكلة تنفيذ أحكام التحكيم هي حقيقة واقعة لا يمكن انكارها.
إذا كانت مشكلة تنفيذ أحكام التحكيم تبدو محدودة الأبعاد إذا ماظلت في إطار النظام القانونى الوطني، فإن جوانب هذه المشكلة تتعاظم وتتنامى آثارها إذا ماتعلق الأمر ببحث الأثر الدولي لهذه الأحكام.
في الواقع أنه في مجال التجارة الدولية لا يوجد جانب عملي في التحكيم تفوق أهميته أهمية النفاذ الدولي لأحكام التحكيم. إن الثقة في أحكام التحكيم والاطمئنان إلى تنفيذها يؤثر بلا شك من الناحية العملية على التجارة الدولية، ذلك أن انعدام الثقة يعنى تزايد المخاطر التى يتعرض لها المشتغلون بها وهو ما يدفع البعض إلى الإحجام عنها او اتخاذ اجراءات تتعلق بزيادة الضمانات ورفع سقف مقابل تحمل المخاطر وهى أمور لها انعكاساتها السيئة على حركة التجارة الدولية.
من هذا المنطلق فإن أنصار حرية التجارة العالمية يعتبرون أن الحالات التي يضطر فيها المشتغل بالتجارة إلى اللجوء إلى القضاء في دولة أجنبية لضمان حقوقه نوعاً من القيود ينبغى العمل على إزالتها. ففي ظل التباين بين النظم القانونية المختلفة، وفى غياب أو التشكيك في وجود، ما يمكن أن نطلق عليه حكم التحكيم الذى يعلو فوق الدول Supranational award فإن مخاوف عدم نفاذ هذه الأحكام دولياً تظل عقبة أساسية أمام تطور نظام التحكيم الدولي وبالتالى حجر عثرة أمام التجارة الدولية.
إذا كنا قد عرضنا في هذه المقدمة لأهمية النفاذ الدولي لأحكام التحكيم. وحساسية تعرض أحكام التحكيم للطعن عليها أمام القضاء الوطني، فإنه تجدر الإشارة إلى أن هناك اتجاهاً قضائياً آخذاً فى التنامي مقتضاه أن بطلان حكم التحكيم الذي قضى به فى دولة لا يقف حجر عثرة أمام قاضي التنفيذ في دولة أخرى.اتجاهاً جديداً قد تتهاوى أمامه نصوص اتفاقيات بل وقد تتبدل به أموراً کنا نعتقدها من الثوابت كالقيمة الفعلية لمقر التحكيم وأرجحية تطبيق القواعد السارية فيه.
أهمية الدراسة:
تكمن أهمية هذه الدراسة في بيان الألية الواجب إتباعها لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وذلك من خلال دراسة نصوص المواد المتعلقة بتنفيذ الأحكام القضائية وقرارات التحكيم الأجنبية، مشيرة بذلك إلى التشريعات المقارنة.
وأهمية للبحث لا تتجسد في الوقوف عند هذا الجدل التقليدي في الفقه العراقي، حول إمكانية، أو عدم إمكانية تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، أو الدولية في العراق، بل تتعلق بالتحديات التي تواجه تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية والدولية في العراق، ومدى ملاءمة قواعد التحكيم وتنفيذ أحكام المحكمين في قانون المرافعات العراقي، مع القواعد المعمول بها اليوم في الأنظمة القانونية، وخصوصاً إتفاقية نيويورك لعام 1958.
فالنظام القانوني العراقي لم يفرق بين أحكام التحكيم الوطنية والأجنبية والدولية مثلما فعلت الكثير من التشريعات الوطنية والإتفاقيات الدولية. كما إن قانون المرافعات المدنية في المادة (273) منه لم يفرق بين سلطة القاضي المطلوب منه تنفيذ حكم التحكيم، وبين سلطة القاضي المطلوب منه إبطال الحكم، إذ يكون للقاضي العراقي المطلوب منه تنفيذ حكم التحكيم سلطة الأمر بتنفيذه، أو إبطاله، الأمر الذي يتجاوز مبدأ توزيع الاختصاصات بين قضاء دولة صدور الحكم المختص ببطلان حكم التحكيم، وبين قضاء دولة التنفيذ الذي لا يكون له سوى قبول التنفيذ، أو رفضه وأهم من ذلك كله، السلطة التي تمنحها المادة (274) من قانون المرافعات المدنية للقاضي المطلوب منه تنفيذ حكم التحكيم تنسف الغاية من اللجوء إلى التحكيم. فهي سلطة واسعة تخيّر القاضي المعروض عليه حكم التحكيم قبول تنفيذه، أو إبطاله عند توفر حالات البطلان من جهة، وتتحية حكم التحكيم، والفصل في موضوع النزاع الذي فصل فيه إن كان له مقتضى، من جهة أخرى.
إشكالية الدراسة:
تتمثل إشكالية هذه الدراسة في بيان الإجراءات الواجب إتباعها أمام القضاء الوطني العراقي واللبناني لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وذلك من خلال النظر في موقف التشريعات المقارنة والإتفاقيات الدولية.
لذلك، فإن الإشكالية التي يثيرها موضوع الدراسة تتمثل في السؤال التالي:
ما مدى حجية أحكام التحكيم الأجنبية أمام القضاء الوطني؟ وما مدى سلطة القاضي الوطني في الرقابة على حكم التحكيم الأجنبي وإعطاءه الصيغة التنفيذية؟
منهج الدراسة:
سنعتمد من خلال هذه الدراسة على المنهج التحليلي المقارن، وذلك من خلال تحليل نصوص قانون المرافعات المدنية العراقي رقم 83 لعام 1969 والقانون المدني رقم 40 لعام 1951 وذلك لتوضيح الأحكام التي نظم من خلالها المشرع العراقي تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، وبيان مدى توافقها مع أحكام كل من اتفاقية نيويورك واتفاقية الرياض، ومقارنتها مع ما أورده المشرع اللبناني من أحكام مقابلة في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني رقم 90 لعام 1983.
خطة الدراسة:
للإحاطة بموضوع الدراسة وللإجابة على الإشكالية التي يثيرها موضوع الدراسة اتبعنا التقسيم الثنائي، حيث قسمنا هذه الدراسة إلى فصلين، تطرقنا في الفصل الأول لدراسة الأحكام القانونية المنظمة لتنفيذ أحكام التحكيم الدولي، أما الفصل الثاني فقد تطرقنا فيه لدراسة القواعد الأصولية لتنفيذ أحكام التحكيم الدولي.
كما قسمنا الفصل الأول إلى مبحثين، تطرقنا في المبحث الأول لدراسة النفاذ الدولي لأحكام التحكيم، أما المبحث الثاني فقد تطرقنا فيه لدراسة شروط تنفيذ القرارات التحكيمية الدولي.
كذلك قسمنا الفصل الثاني بدوره إلى مبحثين، تطرقنا في المبحث الأول لدراسة الإجراءات السابقة لإصدار أمر التنفيذ، أما المبحث الثاني فقد تطرقنا فيه لدراسة إصدار أمر بتنفيذ حكم المحكمين.


الفصل الأول
الأحكام القانونية المنظمة لتنفيذ أحكام التحكيم الدولي
إن وصف القرارات الصادرة عن المحكمين بأنها أحكام تحكيمية، تترتب عليها آثاراً مهمة فحكم التحكيم دون غيره، هو الذي تنطبق عليه الاتفاقيات الدولية بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم( ). كما أن وصف قرار بأنّه حكم تحكيم يميزه عن باقي أعمال المحكمين فيما يخص الطعن ببطلانه( ). فمن المقرر أن تخضع أحكام التحكيم للطعن بدعوى البطلان، أو بأي طعن يقرره القانون، وهي تختلف بذلك عن أعمال المحكمين التي لا تعد أحكاماً تحكيمية.
وأهم من ذلك، ما يترتب على ثبوت صفة حكم التحكيم لقرار ما، من إضفاء الصفة الوطنية، أو الأجنبية، أو الدولية. الأمر الذي يستتبع التفرقة في معاملة حكم التحكيم في كثير الأنظمة القانونية، بحسب الصفة التي يحملها من حيث وطنيته، أو دوليته.
وعلى الرغم من أهمية تحديد المقصود بحكم التحكيم، إلا أن التشريعات الوطنية والاتفاقيات الدولية، والقوانين النموذجية، لم تعرف حكم التحكيم تعريفاً جامعاً. فعلى مستوى اتفاقية نيويورك، نجدها تعرضت لتعريف أحكام التحكيم في المادة (1/1 و2) منها من ناحيتين، الأولى، وطنية، أو عدم وطنية حكم التحكيم وأجنبيته، والثانية، الأشخاص الذين يصدرون حكم التحكيم (محكمون، هيئات تحكيم)، فلم تبين اتفاقية نيويورك متى يرتب الحكم أثره التنفيذي، وذلك بالنظر إلى إمكانية إصدار أكثر من حكم في أكثر من مسألة من قبل المحكم كذلك الحال في اتفاقية عمان للتحكيم التجاري لعام 1987، حيث لم تعرف أحكام المحكمين، وهو الموقف نفسه الذي تبنته اتفاقية الرياض للتعاون القضائي لعام 1983.
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين، سنتطرق في المبحث الأول لبحث النفاذ الدولي لأحكام التحكيم، أما المبحث الثاني فسنتطرق فيه لبحث شروط تنفيذ القرارات التحكيمية الدولية. 
المبحث الأول
النفاذ الدولي لأحكام التحكيم
لقد تطلعت الأنظار منذ فترة طويلة لضرورة اللجوء الى منهج التوحد الدولي لضمان الاعتراف بأحكام التحكيم الأجنبية وتنفيذها، بحيث يتم هذا الاعتراف وذلك التنفيذ على هدى قواعد موحدة يتم من خلالها استقبال حكم التحكيم وفق أسس وأحكام واحدة لا تختلف باختلاف دولة الاعتراف أو التنفيذ.
هذا المنهج قد تجسد في اتفاقية نيويورك ١٩٥٨ الخاصة بالاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، والتي حرص على الانضمام اليها أكثر من ثلثي دول العالم بحيث لم تعد فقط بمثابة اتفاقية دولية وانما صارت نموذجا للاتفاقيات التي ترنو للعالمية وأضحت قاب قوسين أو أدنى لبلوغ أهدافها( ).
لا شك أن هذه المحاولة لإخضاع الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم لقواعد دولية موحدة لم تكن الأولى فقد سبقت محاولات أخرى لمعاهدات لم تبلغ هذا الشأن وتلك المنزلة ولكنها كانت في ذلك الحين تمثل خطوة جادة للأمام نحو نشر القيمة الدولية لحكم التحكيم.
ولعل اتفاقية جنيف لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية المبرمة سنة 1927 كانت باكورة هذه الاتفاقيات الرامية الى وجود قانون دولي اتفاقي في هذا المجال الهام لقد جاءت هذه الاتفاقية أساسا لتلافي أوجه النقص التي اعترت بروتوكول جنيف الموقع في 24 أيلول 1923 والذي لم يتناول سوى مسألة الاعتراف الدولي بشرط التحكيم أو مشارطته، لذا فانه ينسب لهذه الاتفاقية فضل السبق في محاولة إيجاد الحلول المناسبة لمشكلة تنفيذ أحكام التحكيم الدولية.
ومع ذلك فان مجال هذه الاتفاقية قد حد من فاعليتها اذ اقتصر، طبقاً للفقرة الأولى من المادة الأولى منها، على أحكام التحكيم التي أضحت نتاجاً لشرط تحكيم أو مشارطة تحكيم يتوافر فيها الضوابط الخاصة ببروتوكول جنيف 1923 ومن ناحية أخرى فقد استلزم هذا النص أن يكون حكم التحكيم المطلوب الاعتراف به أو تنفيذه قد صدر في إقليم، وبين أشخاص خاضعين لقضاء إحدى الدول الأطراف في الاتفاقية.
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين، سنتطرق في المطلب الأول لبحث الأثر الدولي للقرارات التحكيمية، أما المطلب الثاني فسنتطرق فيه لبحث جنسية قرار التحكيم وإجراءات تنفيذه.

المطلب الأول
الأثر الدولي للقرارات التحكيمية
إن بيان الأثر الدولي لأحكام التحكيم انما يشمل أحكام التحكيم غير الوطنية سواء كانت أحكام تحكيم أجنبية أو دولية، وحتى تقوم هذه الدراسة على دعامات ثابتة فانه يجب الولوج الى عمق المشكلة والبحث في جذورها. في الواقع ان الحلول التي يمكن الوصول اليها فيما يتعلق بالسمة الأجنبية، أو الدولية، لحكم التحكيم تعتمد على طبيعة وماهية هذا الحكم، والتي تعتمد بدورها على الطبيعة القانونية للتحكيم ذاته( ).
فإذا كانت هذه الدراسة تدور في شق منها حول الأثر الدولي لحكم التحكيم، فإنه قد يكون من الصعوبة بمكان أن نفصل بين التحكيم ذاته والحكم الصادر في شأن المنازعة موضوع هذا التحكيم. فمراحل التحكيم المختلفة بداية بشرط التحكيم أو مشارطة التحكيم نهاية بالحكم ذاته تشكل تكويناً واحداً تتجانس طبيعة أجزائه المختلفة ومن ثم فان التكييف أو الوصف القانوني الذي يمكن أن نضفيه على التحكيم قد لا يطابق ولكنه يؤثر في تحديد طبيعة مكوناته، بما في ذلك حكم التحكيم ذاته، كما يتأثر بها.
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المطلب إلى فرعين، سنبحث في الفرع الأول طبيعة قرار التحكيم الدولي، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لبحث أنواع القرارات التحكيمية.

الفرع الأول
طبيعة قرار التحكيم الدولي
يعتبر التحكيم نظام قضائي يقوم على إرادة الأطراف، وإن إغفال هذه الطبيعة القضائية للتحكيم يتنافى مع ما اتجهت إليه هذه الإرادة ذاتها.
إن النقطة الأساسية في التحكيم ليست اتفاق التحكيم نفسه وإنما هي حكم التحكيم الذي يعد العمل الأساسي الذي يدور حوله النظام بأكمله ويمثل الهدف النهائي المراد من ورائه وهو تسوية المنازعات والذي من أجله أبرم هذا الاتفاق، فاتفاق التحكيم اذن هو العمل التحضيري لهذه التسوية ولا يمكن. اعتبار العمل الأساسي ثانوياً أو امتداداً للعمل التحضيري( ).
ويخلص هذا الاتجاه إلى تأكيد السمة القضائية للتحكيم والحكم الصادر في نهايته على وجه الخصوص، خاصة وأن حكم التحكيم يحوز قوة الشيء المقضي بمجرد صدوره مما استوجب وجود تنظيم مماثل للتنظيم المتبع في مجال الأحكام القضائية وبصفة خاصة ما يتعلق بقابلية أحكام التحكيم للطعن فيها مباشرة - في فرنسا على الأقل - أمام المحاكم العادية( ).
هكذا فإن أنصار النظرية القضائية يرون أن حكم التحكيم هو بمثابة حكم قضائي، وأن هذه السمة تنحسر على كل الأعمال السابقة على صدوره بل ان هذه النظرية تحدد دور ارادة الأطراف في حدود ضيقة للغاية بحيث يقتصر هذا الدور على إطلاق نظام متكامل للعمل وأنه من هذه اللحظة يكون لهذا النظام حياته الخاصة".
ومع ذلك فإن التصور العقدي للتحكيم قد وجد له مريدين ولم يعدم المناصرين. وتقوم نظرية الطبيعة العقدية للتحكيم على أساس أن اتفاق التحكيم يمثل حجر الزاوية ومركز الثقل في كل الأعمال التي يتشكل منها التحكيم، وحكم التحكيم ذاته يستمد كل قيمته القانونية من اتفاق التحكيم ويشترك مع هذا الأخير في سمته العقدية( ).
في الواقع أن التصور العقدي للتحكيم، ومكوناته، له مزاياه العملية التي لا تنكر سواء من ناحية تحقيق الأهداف المرجوة من نظام التحكيم في مجمله وتحريره من هيمنة القضاء الرسمي، أو من ناحية أخرى، ما يؤدى إليه هذا التصور من تسهيل مهمة تنفيذ أحكام التحكيم والأجنبية منها بصفة خاصة، ذلك أن أحكام التحكيم يمكن أن تكون بهذا التكييف مرتبطة بكل نظام قانوني وطني ومن ثم فإنها لا تخضع للمراجعة التي قد يمارسها القاضي الوطني عند اضطلاعه بمهمة تنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية.
من هذا المنطلق فقد امتد التكييف العقدي إلى حكم التحكيم نفسه على أساس أن الحكم ليس الانتاج اتفاق التحكيم على أثر هذا الاتفاق أصدر المحكمون هذا الحكم، ألا يشكل الحكم مع هذا الاتفاق جسد واحد ووحدة واحدة؟ ماذا كان يمكن أن يحدث بدون هذا الاتفاق؟ لا شيء، الاتفاق هو الذي خول المحكمون سلطة الفصل في النزاع، فاتفاق التحكيم هو جوهره، وبالتالي فإن حكم التحكيم ذاته تكون له هذه السمة العقدية( ).
إن هذا التصور قد جانبه الصواب في التركيز على أهمية اتفاق التحكيم ذاته وثانوية وتبعية حكم التحكيم، في حين أن هذا الأخير يمثل محور وهدف نظام التحكيم بأكمله.
علاوة على ذلك فإن هذا الاتجاه الذي ينكر على أحكام التحكيم صفة الأحكام القضائية يؤكد على أن المحكمين ليسوا قضاة وإنما مجرد وكلاء عن أطراف التحكيم ".
فالتحكيم يحوي عقدين في آن واحد: الأول يربط بين أطراف التحكيم ويعبر عن ارادتهم في اخضاع منازعاتهم للتحكيم، والثاني يربط بين الأطراف وهيئة التحكيم، هنا نجد أنفسنا أمام عقد إيجارة خدمات أو وكالة، حيث يوكل للمحكمين مهمة محدودة، فهم الى حد ما مجرد وكلاء في ممارستهم لمهمة التحكيم ومن ثم فإن حكم التحكيم ليس الا تنفيذا لهذه الوكالة، فهو ليس في الحقيقة سوى اتفاق خطه الأطراف بأيدي هؤلاء المحكمين( ).
في الواقع اذا كان التكييف العقدي لاتفاق التحكيم مسلماً به، غير منازعاً فيه، فإنه لا يمكن القول بأن المحكمين مجرد وكلاء، فالمحكم يقوم بعمل قضائي وهو الحكم في النزاع، وهو مالم يكن في وسع الأطراف أنفسهم القيام به بذواتهم، فالمحكم اذن هو قاضيهم الذى يفرض حكمه على الجميع( ).
هذه الانتقادات قد دفعت إلى تبنى نظرية وسطية أو مختلطة، من طبيعة مركبة، تستمد بعض سماتها من القانون التعاقدي والأخرى من القانون الإجرائي( ).
هذا الاتجاه يقوم على التحليل المجرد للتحكيم وللمراحل المختلفة التي يمر بها، دون تحديد مسبق لهدف يرنو إلى تحقيقه من وراء اضفاء صفة العقدية أو القضائية على نظام التحكيم برمته( ).
وبالرغم من تسليم هذا الجانب من الفقه بهذه الطبيعة المختلطة للتحكيم فان الخلاف في هذا الجانب مازال قائما حول تحديد مكونات التحكيم ذات الصفة القضائية وتلك التي يبرز فيها الطابع العقدي( )، بل إن حكم التحكيم ذاته كان من بين تلك المسائل الخلافية.
بالرغم من قناعتنا بهذا التكييف المختلط التي تتأكد فيه الطبيعة القضائية لحكم التحكيم، إلا أننا نميل إلى ما ذهب إليه البعض( )، من ضرورة أن ننحى جانبا هذه الجوانب النظرية التي تحيط بها خلافات فقهية مستمرة والتي يكون المرجع في تحديد الموقف منها مرتبطا بالرؤى الوطنية ، أي بالنظام القانوني الداخلي في كل دولة، وأن علينا أن نركز اهتمامنا على تحديد طبيعة التحكيم في مجال التجارة الدولية خاصة، فهذا المجال هو الميدان الخصب لبحث النفاذ الدولي لأحكام التحكيم، كما أن هذا المجال له واقعه العملي الذي لا ينكر، كما أن قواعده أرست غالبية قواعدها الأعراف التجارية الدولية وقواعد القانون الدولي الاتفاقي.
الاتفاق الإرادي مازال، من حيث المبدأ، هو أساس التحكيم، بواسطته يخول الأطراف المحكم سلطة الحكم في نزاعهم، يوجد هنا اذن في بؤرة التحكيم مكنة شخصية تتمثل في سلطة تعيين شخص المحكم، ومكنة عينية أو موضوعية تتعلق بتحديد موضوع النزاع الذي يخضع لقضاء هذا المحكم وتنحصر فيه مهمته، هذه القدرة أو تلك السلطة هي من أصل تعاقدي، إرادة الأطراف هي مصدر اختصاص المحكم، هي التي تخلق هذا الاختصاص وتضع له حدوده.
ومع ذلك، وكما يذهب أنصار هذا الاتجاه، فإن الواقع العملي للتجارة الدولية يحمل نوعا من الضبط أو التصحيح لهذا التحليل المتقدم فإرادة الأطراف ليست دائما حرة في هذا المجال، في كثير من الحالات يكون الانتماء لمجتمع تجارى معين من شأنه أن يفرض على ممارسيه (ممارسي تجارة بعينها) أن يقبلوا في عقودهم شرط تحكيمي على نحو معين ذو صيغة ومضمون محددان سلفاً( ).
بل إنه بعيداً عن تلك التكتلات التجارية، تجدر الإشارة إلى أنه من النادر أن يناقش الأطراف مسائل التحكيم تفصيلاً تحديد المحكمين، او إجراءاته، القانون الواجب التطبيق على الجانبين الإجرائي والموضوعي للتحكيم ..الخ".
في غالبية الأحيان لا يستطيع الأفراد أن يصلوا الى اتفاق كامل حول هذه المسائل جميعها فيوكلون للغير القيام بهذا العمل، وهذا الغير غالباً ما تجده الآن مؤسسة تحكيمية دائمة يتفق الأطراف صراحة أو ضمناً على تطبيق نظمها وقواعدها.
في الواقع إن ظهور مراكز التحكيم الدائمة، وكثرة اللجوء إليها في مجال التجارة الدولية، أضحى ظاهرة ملموسة، هذه المراكز تمثل في الحقيقة قضاءً خاصاً دولياً على نحو فعلى، له قضاته (المحكمين)، له هيكله التنظيمي، وقواعد عمل مستقرة، بحيث يمكن أن يحاكي القضاء الرسمي للدولة.
هكذا بجانب هذه السمة القضائية لأحكام التحكيم والتي صارت حقيقية ومؤكده خاصة في مجال التحكيم التجاري الدولي، برزت أيضاً السمة التنظيمية للتحكيم، أي جعل التحكيم نظاماً متكاملاً منفصل عن إرادة ممارسيه، وهو ما جاء نتيجة ضغط حاجات التجارة الدولية والتي لا يفي بها أن نحصر أنفسنا داخل عقود أو مشارطات ليس فيها من الرضائية الا الاسم فقط.
والاعتراف بالتحكيم التنظيمي أو المؤسسي أو كما يسميه البعض( ) التحكيم سابق التجهيز لا يعنى المساس بمبدأ سلطان الارادة، فمازالت الارادة " الحقيقية أو المفروضة " هى محور انطلاق هذا النظام للعمل.
فمازال الاتفاق من حيث المبدأ على اللجوء الى التحكيم تلعب فيه الإرادة دوراً يتسع أو يضيق مجاله حسب القيود المفروضة في مجال التجارة الدولية في قطاعات معينة، كما أن هذه الارادة مازال لها دورها الحاسم في تحديد نظام التحكيم المتبع وذلك عن طريق اللجوء الى مركز تحكيمي معين يكون تدخله وتطبيق أنظمته محل اتفاق من جانب الأطراف.
نخلص مما تقدم الى تأكيد الطبيعة القضائية لحكم التحكيم والتحول إلى السمة التنظيمية للتحكيم في مجموعه خاصة في مجال التجارة الدولية.
وإذا كانت الطبيعة القضائية لحكم التحكيم لم تعد محل شك في هذا المجال الحيوي الذي تبدو فيه الحاجة للتحكيم ضرورية وملحة، فإنه يجب أن تسارع إلى القول بتأكيد هذه السمة وبصرف النظر عن موقف التشريعات الوطنية.
وهذا ما دفع بالبعض( )، إلى الأخذ بنظرية الفقيه الألماني Rabel الذي تذهب إلى وجوب ألا يتقيد القاضي بالأوصاف القانونية المنصوص عليها في قانون بعينه وإنما يجب أن يستخلص، باستعمال المنهاج المقارن، المفاهيم المشتركة في مختلف النظم بحيث ينتهي الى تصور يتصف بالعالمية لطبيعة المسألة المتنازع بشأنها.
هذا المنهاج المقارن يدعونا للاعتراف بأن حكم التحكيم تتوافر له السمات الأساسية للعمل القضائي فهدفه فض النزاع بين أطرافه وهو ما يفترض وجود نزاع وأن يوكل للغير مهمة فضه، وهذا الجانب المادي والأساسي في العمل القضائي، ومن ناحية أخرى فان المحكم يلتزم في فصله في النزاع بقواعد الاجراءات الأساسية التي تحكم مهمة القاضي وبذلك يكون حكم التحكيم قد توافر له الجانب الشكلي في العمل القضائي.
وأخيراً إذا كان القاضي الرسمي يستمد وظيفته، وتفويض المجتمع له بهذه المهمة، من القانون مباشرة، فإن غياب هذا الجانب التنظيمي الرسمي في حالة التحكيم لا يخل بقضائية العمل الذي يقوم به المحكم، ذلك أن هذا الأخير قد توافر له هذا التفويض التشريعي من خلال اقرار القانون لإمكانية حل هذا النوع من المنازعات بطريق التحكيم، فهناك اذن تفويض قانوني من جانب المشرع الا أن اعماله يتوقف على إرادة الأطراف.
هذه السمة القضائية المعترف بها لحكم التحكيم تختلف عن ماهيته ومقوماته، فالمقصود بماهية حكم التحكيم التعرف على الخصائص التي تميزه عن سائر الأعمال القضائية، بمعنى الوقوف على الصفات الواجب توافرها فيما انتهى إليه المحكمون من حل لفض النزاع بين الأطراف حتى يمكن القول إننا أمام حكم تحكيمي له حجية الشيء المقضي فيه ويمكن الاعتراف به وتنفيذه سواء في محل صدوره أو في دولة أخرى.
الفرع الثاني
أنواع القرارات التحكيمية
يملك المحكم إصدار قرارات قطعية وغير قطعية كلية أو جزئية، أو تمهيدية فحسن سير الخصومة التحكيمية قد يقتضي إصدار قرارات قبل حسم النزاع وبعده، لذلك ينبين أنواع القرارات التحكيمية من خلال الآتي:
1- الأحكام الصادرة قبل الفصل في موضوع النزاع:
الأصل، أن تصدر هيئة التحكيم قراراً واحداً فاصلاً في موضوع النزاع نهائياً فيما فصل فيه، إلا أن سير خصومة التحكيم قد تطرأ عليه مسائل أولية، أو فرعية، أو طلبات أولية من شأنها عرقلة سير العملية التحكيمية تحتم على هيئة التحكيم إصدار قرارات متنوعة قبل الحكم الفاصل في النزاع. فالأنظمة القانونية( )، أدركت، منذ زمن ليس بقريب، الوظيفة القضائية التي يمارسها المحكم، واعترفت له من خلالها بإصدار قرارات جزئية، ووقتية، أو تمهيدية، وصولاً إلى القرار الفاصل في النزاع. فالحكم الجزئي: هو الحكم الذي تصدره هيئة التحكيم فاصلاً بصورة نهائية، في جزء من الطلبات الموضوعية، أو المسائل الإجرائية مجرداً هيئة التحكيم من ولايتها فيما فصل فيه، من موضوع أو إجراء، مع بقاء ولايتها في النظر بباقي المسائل( ).
فالمحكّم حين يصدر قرارات جزئية، يقوم بعملية حسم متتابع للمنازعة دون أن يفصل فيها كلها( )، ولأجل إزالة الالتباس الحاصل بين مفهوم حكم التحكيم النهائي، والجزئي، فإن هذا الأخير، يكون نهائياً فيما فصل كالحكم الكلِّي الذي يفصل في المنازعة بأجمعها. فهو يقف في مقابل، مفهوم حكم التحكيم الكلي، ويتقرر له كما يتقرر للحكم الكلي، الأثر المترتب على الفصل في النزاع وهو الصفة النهائية، ويترتب على ذلك، دخوله في مفهوم حكم التحكيم القابل للتنفيذ( ).
ومن أمثلة الأحكام الجزئية الفصل في اختصاص هيئة التحكيم أو تحديد القانون الواجب التطبيق وتقرير مبدأ المسؤولية، وبهذه المثابة، فإن حكم التحكيم الجزئي يختلف عن حكم التحكيم الوقتي، أو التمهيدي، وهو الحكم الذي لا ينهي أي مسألة تتعلق بالمنازعة، ومن ثم، لا يضع حداً لولاية المحكم، إذ أنه يرمي إلى التمهيد لإصدار حكم موضوعي أو إجرائي يحسم المنازعة المعروضة في كل أو في جزء منها، ومن أبرز أمثلته القرار الصادر بتحديد زمان ومكان انعقاد محكمة التحكيم، والقرار الصادر بندب خبير، أو إجراء إثبات( ).
ويلاحظ بأن القرار الصادر بإجراء الإثبات يكون حكماً جزئياً، ومن ثم، يكون قابلاً للتنفيذ عندما يكون من شأن إطلاع الخصم على بيانات حسابات الوكيل التجاري تمكينه من الحصول على سند تنفيذي( ).
2- الأحكام المنهية للخصومة:
إن الأحكام المنهية للخصومة تكون على عدة أنواع وهي:
أ- حكم التحكيم الاتفاقي: هو الحكم الذي يصدر بناءً على اتفاق الأطراف أثناء سير إجراءات التحكيم على حل نزاعاتهم ودياً عبر تسوية يتوصلون إليها لإنهاء الإجراءات ويكون دور المحكم عند إصدارة هذا الحكم مقتصراً على إفراغ التسوية التي تم التوصل إليها في شكل عقد، وإنهاء إجراءات التحكيم( ).
وعلى الرغم من ضعف دور المحكم في إصدار قرار ينهي الخصومة التحكيمية، بناء على التسوية بين الأطراف، إذ يقتصر دوره على تدوين هذه التسوية في شكل حكم ملزم للأطراف، فإننا نرى إمكانية تنفيذ هذا الحكم إذ قد يعمد أحد الأطراف إلى النكول عن ما اتفق عليه، الأمر الذي يتطلب قهره، وجبره على الرضوخ إلى ما توصل إليه من تسوية مجتمعاً مع الطرف الآخر، ولا يمكن ذلك، إلا من خلال إفراغ التسوية بشكل حكم.
ب- الحكم بالصلح: هو الحكم الذي يصدر باتفاق الأطراف على تخويل المحكم بإصداره استناداً إلى مبادئ العدالة وقواعد الإنصاف، وعدم تقييده بأوضاع قانون المرافعات، أو الأحكام القانونية التي تتصل بالمنازعة المعروضة عليه. وهو حكم، لا إشكال في قابليته للتنفيذ شريطة مراعاة أمرين وهما: إذا كان المحكم لا يلتزم بالقانون، حين إصدار قرار الصلح فإنه مقيّد بالنظام العام، ومراعاة اتفاق الخصوم على تحويل المحكم سلطة الحكم بالصلح اتفاقاً صريحاً( ).
وفي هذا الصدد، تنص المادة (265/2) من قانون المرافعات العراقي على أن: "إذا كان المحكمون مفوضون بالصلح يعفون من التقيد بإجراءات المرافعات وقواعد القانون إلا ما تعلق منها بالنظام العام". والصلح حسبما تعرفه المادة (698) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951هو: "عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بالتراضي".
وتجدر الاشارة الى أن صدور الحكم مبنياً على الصلح بين الاطراف يختلف عن الحكم الذي يصدر عن التحكيم القضائي، أو الصلح القضائي، اذ أنه حكم، يصدره القاضي بناء على اتفاق الاطراف، كمحكّم مصالح، حينما تكون المنازعة معروضة عليه( ).
إذ لا يُعد الحكم الصادر عن القاضي بالفصل في الدعوى كمحكّم مصالح (يهدف إلى صلح الأطراف، أي تقريب وجهات النظر بينهم للوصول إلى حل يرضي الأطراف)، حكماً تحكيمياً يخضع للنظام الخاص بالحكم التحكيمي، وإنما هي أحكام قضائية لا تختلف في طبيعتها عن الأحكام القضائية الأخرى، فالقاضي يصدره باسم الدولة، على العكس من حكم التحكيم الذي لا يصدره المحكم باسم دولة معينة، ومن جهة أخرى، يتعين على المحكم احترام موعد إصدار حكم التحكيم الأمر الذي يكون القاضي معفياً منه، حينما يكون محكماً مصالحاً.
ج- الحكم النهائي: هو القرار الرئيسي النهائي، الذي يفصل في النزاع المعروض على المحكم بجميع عناصره، ومسائله، ومن ثم يترتب عليه، استنفاد ولاية المحكم، وانتهائه من مهمته، ويكون ملزماً للأطراف، ويحوز حجية الأمر المقضي( ).
وتنتهي الإجراءات التحكيمية بإصدار هذا الحكم، إذ لجأ الأطراف إلى التحكيم، من أجل استصدار حكم فاصل في عموم النزاع. لذلك فهو أهم أنواع الأحكام التي يصدرها المحكم، التي يستنفد ولايته فيها( ).
ويلاحظ بأن مصطلح "نهائي" يمكن أن يستخدم للدلالة على معنيين، الأول: هو قطعية الحكم، والقطعية تعني الحسم الملزم الذي لا رجوع فيه لمسألة كانت محلاً للمنازعة بين الخصوم( )، والمعنى الثاني الذي يدل عليه مصطلح نهائي: هو كون الحكم صدر، بعد إصدار مجموعة من الأحكام الأولية، التي فصلت في أجزاء من المنازعة المطروحة على المحكم، والتي مهدت لإصداره، فيكون الحكم نهائياً، وفقاً لهذا المعنى عندما يفصل في المنازعة ككل وليس في جزء منها( ). ومن الجدير بالذكر أن كلا المعنيين يفيدان، استنفاد ولاية المحكم وانتهائه من مهمته.
3- الأحكام الصادرة بعد الفصل في موضوع النزاع:
أ- حكم التحكيم الإضافي: هو الحكم الصادر فيما أغفلته هيئة التحكيم من طلبات كانت معروضة عليه، قبل انقضاء ميعاد التحكيم. ويقصد بالإغفال في هذا المقام السهو والخطأ في الفصل في طلب من الطلبات المقدمة من قبل الطرفين إغفالاً كلياً وذلك بعدم البت بعنصر من عناصر الطلب.
وعلى الرغم من صدور هذا الحكم، مكملاً للحكم الأصلي الذي أنهى الخصومة فلا يكون له، كيان مستقل لأنه لم يفصل في خصومة، إلا أن الفقه( ) يرتب على صدوره، إمكانية الطعن عليه وتنفيذه.
ب- حكم التحكيم التفسيري: هو الحكم الذي يصدره المحكم، لتفسير حكم التحكيم، عندما يشوبه غموض، أو إبهام( ) حيث يكون للمحكم كما يكون للقاضي سلطة توضيح منطوق الحكم، الذي أصدره. ويلاحظ البعض، أن الحكم التحكيمي يتعرض لحالة الغموض، والإبهام عندما يصدره شخص من غير رجال القانون ويعد الحكم التفسيري، جزءاً متمماً للحكم الأصلي، لذا فإنه يحوز الحجية، ويكون قابلا للطعن والتنفيذ.
ج - حكم التحكيم التصحيحي: هو الحكم الذي يصدره المحكم، تصحيحاً لخطأ مادي كتابي، أو حسابي والمقصود بالخطأ المادي، هو الخطأ في التعبير، وليس الخطأ في التقدير ويمنح المحكم إصدار هذا الحكم، لعدم وجود حاجة لرفع دعوى بطلان الحكم الأصلي ما دام الأمر يتعلق بعلاج خطأ مادي.
وتجدر الإشارة، إلى أن المادة (274) من قانون المرافعات العراقي تنص على أنه:
"يجوز للمحكمة أن تصدق قرار التحكيم كلاً أو بعضاً ويجوز لها في حالة الإبطال كلاً أو بعضاً أن تعيد القضية إلى المحكمين لإصلاح ما شاب قرار التحكيم أو تفصل في النزاع بنفسها إذا كانت القضية صالحة للفصل فيها".
فوفقاً لهذه المادة، يكون للمحكم إصلاح ما شاب قرار التحكيم، ولكنّه إصلاح لا فائدة منه، كما أنه إصلاح غريب. إذ كيف يكون للحكم فائدة تذكر من بعد إبطاله؟! إذ لن يبقى الحكم بعد الإبطال، إلا ورقة لا مضمون لها.
المطلب الثاني
جنسية قرار التحكيم وإجراءات تنفيذه
الحقيقة الثابتة أن هناك تبايناً بين دول العالم المختلفة فيما يتعلق بإجراءات وشروط تنفيذ أحكام التحكيم غير الوطنية، هذا التباين، خاصة فيما يتعلق بإجراءات التنفيذ، لم تمحوه الاتفاقيات الدولية التي عنيت بهذا الموضوع الهام بل على العكس قد أكدت على وجوده وتأثيره وفاعليته عندما تركت مهمة تحديد هذه الاجراءات لقانون الدولة المطلوب تنفيذ حكم التحكيم على أرضها وأمام محاكمها.
ومن ناحية أخرى، فمازال لهذا التباين تأثيره الذي لا يمكن اغفاله وذلك على الرغم من أن الاتفاقيات الدولية المعنية، وخاصة اتفاقية نيويورك، قد انضم اليها عدد كبير من الدول فمازالت هناك دول أخرى خارج نطاق سريان هذه الاتفاقيات، بل ان بعض هذه الاتفاقيات قد اعترفت لطالب التنفيذ بالحق في التمسك بالنص الأكثر فائدة سواء كان هذا النص يتضمنه نظام قانوني وطني أو اتفاقية معنية أخرى.
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المطلب إلى فرعين، سنتطرق في الفرع الأول لدراسة جنسية قرار التحكيم الأجنبي، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لدراسة إجراءات تنفيذ القرار التحكيمي.
الفرع الأول
جنسية قرار التحكيم الأجنبي
تستمد جنسية حكم التحكيم أهميتها من اتجاه غالبية الدول إلى التفرقة في المعاملة، سواء من ناحية الاعتراف أو شروط واجراءات التنفيذ وطرق الطعن بين أحكام التحكيم الوطنية وأحكام التحكيم الأجنبية أو الدولية، كما أن لهذه التفرقة نتائجها الهامة أيضا في مجال تحديد الاختصاص الدولي للمحاكم الوطنية بنظر طلب الأمر بالتنفيذ أو بالاستئناف او دعوى البطلان المرفوعة ضد حكم التحكيم( ).
من ناحية أخرى فان جنسية حكم التحكيم وبيان ما إذا كان حكماً وطنياً أم أجنبياً تعد من المسائل الحيوية في مجال تحديد نطاق تطبيق الاتفاقات الدولية التي عنيت بوضع نظم قانونية خاصة بأحكام التحكيم الأجنبية وحدها.
واذا كانت دراسة معايير تحديد جنسية أحكام التحكيم تقضى تحليلا قانونيا، فقهياً وقضائياً، لكل منها، فإننا نجد من الأهمية بمكان أن نعرض لموقف اتفاقية نيويورك 1958 مقارنا بالاتفاقيات الدولية الأخرى المعنية، وأهمها اتفاقية واشنطن 1965، من مختلف هذه المعايير لما تمثله هذه الاتفاقيات من ثقل في مجال القانون الدولي الاتفاقي المعنى بمشكلة تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية بل والتحكيم بصفة عامة.
ويلاحظ أخيراً أن جنسية المحكم أو جنسية أطراف التحكيم ليس لها من تأثير في مجال تحديد جنسية حكم التحكيم، وأن البحث يتركز دائما حول الربط بين هذه الجنسية والجانب الاجرائي في التحكيم سواء كان هذا الربط يقوم على أساس جغرافي أو على أساس قانوني.
1- معيار الدولة التي تم فيها إجراء التحكيم:
أي المعيار الإقليمي أو الجغرافي الذي يسعى الى ربط حكم التحكيم بالدولة التي تم فيها التحكيم حيث يفترض أننا أمام وحدة مادية وقانونية واحدة، وبالتالي يكون من الممكن تركيزها في مكان واحد.
في الواقع ان اجراء التحكيم يمكن أن تتعدد محاله بين مقر رسمي لهيئة التحكيم، ومكان أو أماكن انعقاد الجلسات، ومكان لصدور الحكم، بل أحيانا يكون هناك مكان آخر يتم فيه التوقيع على هذا الحكم أو إيداعه لدى جهات قضائية يحددها القانون( ).
ولكن يبدو أن هذه النظرية قد وجدت في حكم التحكيم وحده مركز الثقل الواجب أخذه في الاعتبار من بين اجراءات التحكيم المشار إليها، ومن ثم فقد انتهت الى أن جنسية التحكيم هي تعبير عن الرابطة التي تربط هذا التحكيم بالدولة التي صدر فيها الحكم ذاته( ).
وبناءً عليه فان التحكيم يكون مصرياً إذا صدر الحكم في مصر ويكون فرنسياً إذا صدر في فرنسا ويكون إماراتيا إذا صدر في دولة الامارات العربية المتحدة، وبصرف النظر عن القانون الذي صدر الحكم وفق أحكامه، بل وبصرف النظر عن أي معايير جغرافية أخرى.
ومع ذلك فقد لاقت هذه النظرية بعض الاعتراضات العملية خاصة في حالة ما إذا كان محل صدور الحكم ذو أهمية هامشية اذا ما قورن بسائر اجراءات التحكيم. هنا يثور التساؤل عن مدى أهمية محل صدور الحكم في دولة معينة إذا كان المحكمين لم يتقابلوا في هذا المكان الا للحظات من أجل النطق بالحكم أو التوقيع عليه؟ كيف يمكن أن نفضل محل صدور الحكم في اقليم هذه الدولة ونغفل الشهور الطويلة التي قضاها المحكمون في جلسات ممتدة في اقليم دولة أخرى؟ ما مدى جدوى هذا المعيار في الحالات التي لم يتقابل فيها المحكمون على الاطلاق وانما يتم تبادل وجهات نظرهم بطريق المراسلة؟ ناهيك عن حالات التحكيم الإلكتروني ومعطياتها، هل يمكن في جميع هذه الفروض الوصول الى تركيز اقليمي أو جغرافي للتحكيم استنادا الى محل صدور الحكم وصولا لتحديد جنسية أحكام التحكيم.
في الواقع إن هذا المعيار يقوم على التماثل بين الأحكام القضائية الصادرة عن القضاء الرسمي للدولة وأحكام التحكيم.
فعلى النحو المتبع بالنسبة للأحكام القضائية فان جنسية أحكام التحكيم يجب أن تقوم على معيار جغرافي محدد، أي عن طريق التركيز الإقليمي، ولكن يجب الا يغيب عنا أن محل صدور الحكم القضائي ليس هو المقصود في حد ذاته لتحديد جنسيته ولكنه يمثل معيارا كاشفا عن أن هذا الحكم قد صدر بواسطة قاض أو محكمة تنتمي للنظام القضائي لدولة ما وأنه قد روعيت فيه القواعد الإجرائية الوطنية السارية في هذه الدولة. فالسمة الاقليمية البحتة والمتعلقة بسيادة الدولة في ممارسة الوظيفة القضائية قد رجحت الربط بين الحكم القضائي والدولة التي صدر فيها وهذا ليس هو الحال بالنسبة لأحكام التحكيم، فصدور حكم التحكيم في دولة معينة لا يعنى الارتباط بين هذا الحكم والنظام القانوني الاجرائي الساري في هذه الدولة.
هكذا فان الأمر يقتضي البحث عن معيار آخر أكثر موضوعية وأكثر واقعية ويرفع عن القاضي الموكول له تنفيذ حكم التحكيم الحيرة والتردد.
2- معيار القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم:
مقتضى هذا المعيار أن جنسية حكم التحكيم تعتمد على القانون الإجرائي الذي تم التحكيم على مقتضاه ووفق أحكامه. فحكم التحكيم يكون وطنياً، حتى ولو صدر في الخارج، إذا تم هذا التحكيم وفق أحكام القانون الوطني، وعلى العكس فان الحكم يكون أجنبياً، ولو صدر في دولة القاضي المطلوب منه تنفيذ الحكم، إذا تم التحكيم وفق أحكام قانون أجنبي( ).
لا شك أن هذا المعيار يتجنب المشاكل العملية المترتبة على الأخذ بالمعيار الجغرافي، كما أنه يتوافق مع التكييف الغالب للتحكيم باعتباره نوعا من الاجراءات القضائية، لذلك فقد وجد ترحيبا من غالبية الفقه الحديث كما أخذت به احكام قضائية عديدة.
في الواقع أنه في ظل الطبيعة المركبة للتحكيم التي تسلم بها، وسلم بها غالبية الفقه( )، فإنه لا يمكن أن نتجاهل في مجال اجراءات التحكيم تأثير وفاعلية القانون الإقليمي الذي تم التحكيم وفق أحكامه، فالخضوع لأحكام هذا القانون يكون منطقيا خاصة لضمان صحة الاجراءات سواء أثناء سير عملية التحكيم (تنظيم الاستشكالات أو الإثبات أو الإجراءات التحفظية أو في نهايتها (كاشتراط ايداع الحكم أو بيان كيفية تنفيذه).
ومع ذلك فإن هذا الاختصاص الواسع والمجرد للقانون الاقليمي يتغافل الجانب الإرادي في التحكيم، حيث لا يمكن القول بأن ارادة أطراف التحكيم قد انحصرت في اطار اختيار محل التحكيم فحسب وأن يكون من شأن هذا الاختيار، وفي جميع الأحوال، جذب اختصاص قانون هذا المحل، كما أنه لا يمكن القول أيضاً بأن اختيار مقر التحكيم معناه اختيار القانون الاجرائي الواجب التطبيق قياسا على حالة اتفاق الأطراف على اختصاص محكمة قضائية معينة، ذلك الاتفاق على مقر معين للتحكيم يمكن أن يستند الى عوامل خارجية عن التحكيم ذاته ) كمقر الأموال المتنازع عليها أو محل الاقامة المعتادة أو المؤقتة للمحكمين أو أحدهم .. الخ).
إن المرونة التي أضفاها الواقع العملي للتحكيم الدولي تأبى تعميم اختصاص قانون محل التحكيم، وأنه إذا كان هناك اعتراف بالسمة القضائية للتحكيم فان هذا الاعتراف ليس معناه التماثل بين التحكيم والوظيفة القضائية للدولة التي يدور التحكيم على أرضها ولكن على العكس من أجل فصل وابعاد التحكيم عن الأطر الرسمية للدول( ).
كما أن معيار القانون الاجرائي للتحكيم قد اثار حفيظة ذوي النزعة الليبرالية، أنصار مذهب سلطان الارادة، الذين يرون في التحكيم وإجراءاته امتدادا لاتفاقية التحكيم ذاتها، ولما كانت هذه الأخيرة لا تختلف عن سائر العقود في سماتها الرئيسية فإن وضعها موضع التنفيذ يجب أن يخضع للقانون العام للعقود أي قانون إرادة الأطراف، فالتحكيم تغلب عليه السمة الاتفاقية، التعاقدية، فهو أسلوب خاص لتسوية المنازعات يقوم أساسا وفقط على اتفاق الأطراف، هذا التحكيم ليس الا أثرا لهذا الاتفاق ولذا يجب أن يخضع للقانون الذي اتفق عليه الأطراف صراحة أو ضمناً( ).
وفي بيان أهمية اعمال مبدأ سلطان الارادة للتعرف على القانون الاجرائي الواجب التطبيق، يذهب الفقه الى أنه اذا كان المحكمين يقومون بوظيفة قضائية فانهم لا يمارسون سلطة عامة، فهم يؤدون العدالة بطريقة خاصة غير رسمية ومن ثم فلا يوجد ارتباط ضروري بين السمة القضائية والخضوع لقانون محل اجراء التحكيم ومن ناحية أخرى فإن تحديد هذا القانون طبقا لإرادة الأطراف يستند الى معطيات موجودة سلفا وقت ابرام المشارطة أو عند وضع شرط التحكيم في حين أن تطبيق قانون محل اجراء التحكيم يمكن أن يظل تحديده غالبا ربما لحين صدور حكم التحكيم ذاته.
لا شك أن سلبية هذا التحديد المتأخر واضحة، فكيف يمكن لهيئة التحكيم أن تباشر اجراءاتها اذا كانوا غير واثقين بعد من المحل او الدولة التي سيتم فيها التحكيم ومن باب أولى الدولة التي سيصدر فيها حكمهم.
وقد دفعت هذه الاعتبارات بالقضاء الفرنسي إلى البعد عن التركيز المجرد أو الموضوعي للتحكيم، فقد أخذ هذا القضاء، أولا وقبل كل شيء بمبدأ حرية الأطراف في اختيار القانون الواجب التطبيق على التحكيم في مجموعه. فهذه الارادة يكون لها سلطانها المعترف به في مجال الالتزامات التعاقدية. ومن ثم فانه: "طبقاً لمبدأ سلطان الارادة في مجال العقود، فإن القانون الذي تخضع له اتفاقية التحكيم وكذا التحكيم في مجموعه، بما في ذلك الحكم، هو ذلك الذي اختاره الأطراف بإرادتهم".
إذن، فإن مقتضى مبدأ سلطان الارادة في مجال التحكيم أن تتوافر المكنة للأطراف في اختيار القانون الواجب التطبيق، بل أن يكون لهم في هذه الحالة اختيار قانون أخر غير القانون الذي انصرفت اليه ارادتهم بشأن العلاقة القانونية موضوع النزاع، إلا أنه في هذه الحالة الأخيرة فان القانون الذي يخضع له التحكيم، والجانب الاجرائي منه على وجه الخصوص سيكون هو المعول عليه في تحديد جنسية حكم التحكيم.
ونحن من جانبنا نؤيد الركون الى ارادة الأطراف للتعرف على القانون الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم حتى يمكن تحديد جنسية التحكيم والحكم بصفة خاصة، وأنه ينبغي البحث عن الارادة الضمنية للأطراف في حالة غياب التعبير الصريح ، وفي هذه الحالة فإننا نفضل تطبيق ما يمكن أن نطلق عليه - تجاوزاً - الإرادة المفترضة التي يجب أن يراعى في استخلاصها تحقيق الوحدة النسبية في القانون الواجب التطبيق على العلاقة القانونية في مجملها بما في ذلك اتفاقية التحكيم واجراءاته ، كما يجب أن يراعى في تحديد هذا القانون الواجب التطبيق أن يتحقق به صحة اتفاق التحكيم واجراءاته وسلامة الحكم الصادر ونفاذه.
الفرع الثاني
إجراءات تنفيذ القرار التحكيمي
تنص الفقرة الأولى من المادة الثالثة من اتفاقية نيويورك 1958 على أن " الدول المتعاقدة تعترف بحجية حكم التحكيم وتأمر بتنفيذه طبقا لقواعد المرافعات المتبعة في الاقليم المطلوب فيه التنفيذ"( ).
مفاد هذا النص أن الاتفاقية قد تركت مهمة تحديد اجراءات تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي لقانون دولة القاضي، وهي من قواعد القانون الدولي المستقرة في مختلف الدول ومع ذلك فقد أضافت المادة الثالثة من الاتفاقية في فقرتها الثانية شرطا جوهريا مقتضاه أنه لن يفرض للاعتراف أو تنفيذ أحكام المحكمين - التي تطبق عليها أحكام الاتفاقية الماثلة شروط أكثر شدة ولا رسوم قضائية أكثر ارتفاعاً بدرجة ملحوظة من الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الوطنية "( ).
فالمبدأ الذي تطرحه المادة الثالثة اذن أن أحكام التحكيم التي تشير اليها اتفاقية نيويورك وتدخل في مجال تطبيقها وفقا للمعايير التي أشرنا إليها آنفاً، يمكن الاحتجاج بها والتمسك بتنفيذها في أي دولة عضو في الاتفاقية.
وتأكيد هذا المبدأ له أهميته، وذلك لأنه في بعض الدول - التي تعامل أحكام التحكيم الأجنبية معاملة مماثلة لتلك الخاصة بالأحكام القضائية الأجنبية - يتصدر شرط المعاملة بالمثل الشروط الأساسية لا مكان تنفيذ هذه الأحكام.
هذا التبادل في المعاملة يتوافر بداهة اذا صدر حكم التحكيم في اقليم دولة من الدول الأعضاء في الاتفاقية، ومع ذلك فان تطبيق اتفاقية نيويورك لا يرتبط بتوافره، اللهم الا اذا كانت الدولة المطلوب التنفيذ أمام محاكمها قد استخدمت - عند انضمامها - التحفظ المتاح لها التمسك به والمنصوص عليه في الفقرة الثالثة من المادة الأولى.
ومن ناحية أخرى، فان حرص الاتفاقية على ترك مهمة تحديد إجراءات تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لقانون الدولة التي يطلب التنفيذ فيها ، لعل مرجعه أن واضعوا الاتفاقية قد وجدوا أن سن تنظيم تفصيلي موحد يشمل تحديد السلطة المختصة، وتحديد اجراءات بحث طلب التنفيذ، وبيانات واجراءات وطرق الطعن المتاحة حيال الأمر بالتنفيذ أو رفض التنفيذ ، يبدو ذلك التنظيم التفصيلي الموحد مستحيلا ، خاصة وأن هذه المسائل ترتبط ارتباطا وثيقا بتنظيم وطرق عمل السلطات العامة في مختلف الدول ، كما أن الطريق يظل مفتوحاً أمام الدول الأعضاء لوضع تنظيم وطني خاص بإجراءات تنفيذ أحكام التحكيم غير الوطنية بما يتفق وروح هذه الاتفاقية( ).
وإذا كانت الفقرة الثانية من المادة الثالثة تخلو من تحديد منضبط ويصعب بسط رقابة فعلية على تنفيذها، فإن الفقرة الأولى من نفس المادة، في نظر البعض( )، وبحق، تتيح الفرصة للدول في أن تتوسع بطريقة غير محسوسة في مفهوم الاجراءات التي تخضع بحسب الاتفاقية للقانون الداخلي لهذه الدول، وربما تجد في ذلك فرصة مواتية لإضافة شروط جديدة لتنفيذ حكم التحكيم غير الوطني، غير تلك الواردة في المادة الخامسة من هذه الاتفاقية.
ففي مجال تقادم دعوى طلب تنفيذ حكم التحكيم غير الوطني نجد مثالاً واضحاً يجسد هذه المخاوف. ففي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (سابقاً) يجب طلب تنفيذ أحكام التحكيم الخاضعة لاتفاقية نيويورك في غضون ثلاث سنوات من تاريخ صدور الحكم (في الولايات المتحدة الأمريكية) أو من التاريخ الذي يحوز فيه هذا الحكم حجيته (في روسيا)( )، أما في قوانين دول أخرى فمنها ما يضع مدد أقل أو أكثر طولاً ومنها مالا يضع حدود زمنية على الاطلاق لرفع دعوى التنفيذ.
بالطبع هذه المدد ذات طبيعة إجرائية وبالتالي فإن المشرع، سواء في الولايات المتحدة الأمريكية أو في روسيا، لم يفعل بوضعه مدة خاصة بتقادم هذه الدعوى أكثر من ممارسته لسلطة منحتها له الاتفاقية، كما أنه قد مارسها - من وجهة نظر الاتفاقية - بطريقة سليمة، إذ أن القاعدة التي استثنتها في هذا الخصوص ليست أشد وطأة من مثيلتها الخاصة بتنفيذ أحكام التحكيم الوطنية والتي تقضى بسقوط الحق في رفع هذه الدعوى بمرور عام واحد.
ولكن إن هذا النص الذي يعتبر معقولاً ومقبولاً من وجهة نظر طالب التنفيذ قد يعد أشد وطأة من جانب من صدر الحكم التحكيمي في غير صالحه، ومن ناحية أخرى فان هذا التباين في مدة التقادم يمكن أن يستخدم ضد هذا الأخير خاصة اذا كان يحمل جنسية دولة قاضي التنفيذ.
ومثال ثانٍ نجده في المقاصة القضائية، فقد تعتبر بعض المحاكم أنه من غير المقبول أن تجعل حكم التحكيم واجب النفاذ في اقليمها اذا كان هناك حكم تحكيمي آخر قد صدر لصالح من صدر حكم التحكيم الأول ضده ولكن لم يستوفِ بعد جانباً من الإجراءات الشكلية، هنا قد يذهب القاضي المطلوب منه تنفيذ حكم التحكيم الأول متكئاً على تكييفه لهذه المسألة بأنها من الإجراءات التي يستقل قانونه بتنظيمها - إلى رفض دعوى التنفيذ على أساس أن هناك نوعاً من المقاصة يتعين إجراؤها، ومخاوف هذا المسلك تزداد أيضاً - وبلا شك عندما يكون المطلوب التنفيذ ضده من مواطني دولة القاضي.

المبحث الثاني
شروط تنفيذ القرارات التحكيمية الدولي
أوردت المادتين الرابعة والخامسة من اتفاقية نيويورك مجموعتان من الشروط لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية ، أولهما شروط شكلية لا يصدر الأمر بتنفيذ حكم التحكيم بغير توافرها، لذا سميت بالشروط الايجابية ، وهذه الشروط يقع عبء اثباتها - اثبات توافرها - وتقديم وثائقها على عاتق طالب التنفيذ (المادة الرابعة)، وثانيهما شروط موضوعية يتوقف صدور الأمر بتنفيذ حكم التحكيم على عدم توافرها ، لذا سميت بالشروط السلبية ، وهي عبارة عن حالات تبرر من وجهة نظر اتفاقية نيويورك رفض طلب التنفيذ ، ويقع عبء اثباتها على عاتق من يجرى أو يطلب التنفيذ ضد مصلحته أو محكمة التنفيذ (حسب الأحوال) (المادة الخامسة).
فإذا كانت الدول، قد قبلت من حيث المبدأ اللجوء إلى التحكيم لفض النزاعات الناشئة بين أطرافه، إلا أنها لا تعد الحكم الذي يصدر عنه، حائزاً على قوة التنفيذ، بمجرد صدوره، إذ تتطلب الأنظمة القانونية اتفاقيات دولية، وقوانين وطنية توفر شروط أو حالات معينة في حكم التحكيم حتى تقبل تنفيذه، وإذا كانت الدول تشترك في المبدأ المتقدم، إلا أنها تختلف في طبيعة هذه الشروط والحالات الواجب توفرها في حكم التحكيم، كي يحوز على قوة التنفيذ، بل أن الدول تختلف في تعاملها مع أحكام التحكيم ومدى احتوائها هذه الشروط، أو الحالات رغم اشتراكها في نظام قانوني يوحدها في الوقوف على أحكام التحكيم، كما هو حاصل في ظل اتفاقية نيويورك لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لعام 1958 وبما أن هذه الاتفاقية، تمثل عصب القانون الدولي الاتفاقي، والنموذج العالمي الرائد في مجال تنفيذ أحكام التحكيم، فإنها وضعت مجموعة أحكام لرفض التنفيذ في المادة الخامسة منها( ).
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين، سنتطرق في المطلب الأول لبحث الشروط المتعلقة باتفاق التحكيم، أما المطلب الثاني فسنتطرق فيه لبحث الشروط المتعلقة بالخصومة.

المطلب الأول
الشروط المتعلقة باتفاق التحكيم
يُعد اتفاق التحكيم أساس العملية التحكيمية، التي تنتهي بإصدار قرار التحكيم، ولكي يكون حكم التحكيم قابلاً للتنفيذ، يشترط صدوره على أساس صحيح، وذلك لكون اتفاق التحكيم، مصدر سلطات المحكمين فهو عقد كأي عقد آخر، تستوجب صحته، صحة رضا أطرافه، ومحله، وسببه. إلا أن هذه الشروط الواجب توفرها في اتفاق التحكيم تتميز عن الشروط الواجب توفرها في العقود الأخرى، تبعا للطبيعة المتميزة لاتفاق التحكيم والنابعة من كونه عقد يبدأ بإجراء وينتهي بقضاء، يحسم نزاع أطرافه( ).
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المطلب إلى فرعين، سنتطرق في الفرع الأول لبحث الشروط المتعلقة بصحة الاتفاق التحكيمي، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لبحث الشروط المتعلقة بأطراف النزاع.

الفرع الأول
الشروط المتعلقة بصحة الاتفاق التحكيمي
يشترط لصحة اتفاق الأطراف على إحالة النزاع إلى التحكيم، أن يكون هذا النزاع قابلاً للتحكيم، فالنظام القانوني العراقي، وسائر الأنظمة القانونية، تحدد المسائل التي تقبل التحكيم، وتمنع من خضوع بعض المسائل له، لأسباب اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية أو غيرها.
وإذا كان الموضوع، قابلاً للتحكيم بطبيعته، فلا ينتهي الأمر عند هذا الحد، للقول بصحة اتفاق التحكيم، بل لابد من مراعاة قيام اتفاق التحكيم من الناحية الشكلية، والزمنية، ومن ناحية صدوره بتراض عن أطرافه، وهو ما نسميه بشرط وجود الاتفاق التحكيمي ولمعالجة هذه الشروط، نقسم هذا الفرع كالآتي:
الفقرة الأولى: قابلية الموضوع للتحكيم:
تعتبر مسألة قابلية موضوع النزاع للتحكيم من المسائل الهامة التي تشغل بال الفقه( )، وتتصدر قوانين التحكيم، وذلك لأن التحكيم عقد قبل كل شيء، فيشترط لصحته، مشروعية محله، فنطاق قابلية النزاع للتحكيم، يتبلور، من خلال البحث في محل التحكيم.
ومحل التحكيم، هو المنازعات التي يشملها اتفاق التحكيم( )، والقابلية هي القدرة والمكنة الممنوحة من المشرع للفصل في نزاع أو مجموعة نزاعات تكون وليدة مجموعة معينة من العقود عن طريق قضاء التحكيم وفق قواعد يختارها الأطراف( ).
وتظهر أهمية قابلية النزاع للتحكيم، من خلال معرفة الحدود التي يرسمها المشرع في كل دولة للمسائل التي تخضع للتحكيم أو لا تخضع، والتي تعد من مصالح الدولة الحيوية أي ذات الأهمية الاقتصادية والاجتماعية الخاصة، ويترتب على عدم مراعاتها الاصطدام بعقبة النظام العام عندما يراد تمرير اتفاقات وأحكام التحكيم( ).
إن مسألة القابلية للتحكيم تؤثر في كم المنازعات التي تخضع لاختصاص قضاء الدولة، فعندما يحدد المشرع المسائل التي تخضع للتحكيم، ينبغي عدم الخروج على هذا التحديد، ذلك لإن الدولة لا تتوانى عن اللجوء إلى فكرة النظام العام، لقياس قابلية محل النزاع للتحكيم، من عدم قابليته.
وبالرجوع للمادة (254) من قانون المرافعات العراقي، والتي تنص على ما يلي: "لا يصح التحكيم إلا في المسائل التي يجوز فيها الصلح ولا يصح إلا من له أهلية التصرف في حقوقه، ويجوز التحكيم بين الزوجين طبقاً لقانون الأحوال الشخصية وأحكام الشريعة الإسلامية.
كذلك فقد قيد المشترع اللبناني الرجوع للتحكيم في إطار المنازعات المدنية والتجارية في المسائل القابلة للصلح وفقاً للمادتين 762 و765 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وإذا كان الصلح جائزاً في كل الأمور إلا أنه لا يجوز في بعضها، كالمنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية والنظام العام والحقوق الشخصية التي لا تعد مالاً بين الناس كالحق المعنوي وحق المؤلف والحقوق المتعلقة بالحريات الشخصية كحق الترشح والإنتخاب والأموال الموقوفة وحقوق النفقة والحقوق الإرثية. كما لا يجوز التحكيم في المنازعات الجزائية والمنازعات ذات الطابع الإداري المتعلقة بالدولة والبلديات والمؤسسات العامة إلا إذا كان التحكيم دولياً وفقاً للمادة 809 من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني.
يتبين لنا أن المشرع العراقي قد تبنى معياراً مزدوجاً، وهما:
الأول: معيار موضوعي وهو قابلية النزاع للصلح، والصلح، حسبما تعرفه المادة (698) من القانون المدني العراقي هو عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بالتراضي
الثاني: معيار شخصي وهو القابلية للتصرف بالحقوق.
فالأصل عند المشرع العراقي، أن التحكيم جائز في المسائل التي يجوز فيها الصلح( )، والمادة (704) من القانون المدني العراقي، تشترط أن يكون المصالح عنه مما يجوز أخذ البدل عنه، ومما كان معلوماً إن كان يحتاج إلى قبض وتسليم، كما أنها تشترط أن يكون الصلح فيما لا يخالف النظام العام أو الآداب.
ويصح الصلح في المسائل التي تترتب على الحالة الشخصية، والتي تنشأ عن إحدى الجرائم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التحكيم لا يصح إلا من شخص يملك التصرف في حقوقه، وفقاً للمادة (254) من قانون المرافعات العراقي، ونتيجة لذلك، لا يصح التحكيم الذي يقوم به شخص ناقص الأهلية أو فاقدها( )، لأن أهلية التصرف تعد شرطاً لإبرام اتفاق التحكيم.
وقد تعددت مواقف الدول حول معايير القابلية للتحكيم، فمن الدول من اعتنق معيار النظام العام، وذهب قسم آخر من الدول إلى اعتناق معيار الطابع المالي للنزاع المعروض على التحكيم، بينما اتجه قسم ثالث إلى تبني معيار قابلية النزاع للصلح، كما اتجه قسم رابع من الدول إلى تبني معيار قابلية التصرف بالحقوق، وقد تبنى قسم خامس من الدول معياراً مزدوجاً، من المعايير السالفة الذكر( ).
وفي هذا الصدد، تركت اتفاقية نيويورك لعام 1958 مسألة تحديد قابلية النزاع للتحكيم للقاضي المطلوب منه، تنفيذ حكم التحكيم، إذ لا يجوز للقاضي المذكور، رفض تنفيذ الحكم من تلقاء نفسه إلا إذا كان النزاع الذي تناوله الحكم التحكيمي غير قابل للتحكيم بطبيعته وفقاً لقانون دولته( ). ونرى أن الاتفاقية في تكريسها للموقف المتقدم، قد أحسنت من جانبين:
أولهما ترك تحديد قابلية النزاع للتحكيم للقاضي المطلوب منه التنفيذ، وهذا الأمر يجنب الاتفاقية مشقة وضع معيار موحد لتحديد القابلية الموضوعية للتحكيم، مراعية بذلك الاختلاف القانوني بين دولة وأخرى.
ثانيهما: عدم اعتبار قابلية النزاع للتحكيم أو عدم قابليته من النظام العام، وذلك بإفراد نص خاص بها، تقديراً من واضعي الاتفاقية، لنسبية القابلية الموضوعية ودقتها من جهة، وللتضييق من الدفع بالنظام العام لتعطيل تنفيذ أحكام المحكمين من جهة أخرى. ويلاحظ أن موقف اتفاقية الرياض لعام 1983 هو ذات موقف اتفاقية نيويورك لعام 1958 بهذا الخصوص( ).
الفقرة الثانية: وجود اتفاق التحكيم:
اتفاق التحكيم هو دستور التحكيم ومصدر سلطات المحكمين، وهو الحائل دون اختصاص القضاء بالنزاع موضوع التحكيم( )، ويعرف اتفاق التحكيم بأنه: "ذلك الاتفاق الذي بمقتضاه تتعهد الأطراف بأن يتم الفصل في المنازعات الناشئة أو المحتمل نشوئها بينهما من خلال التحكيم".
ونظراً لكون اتفاق الأطراف، يعد أساس التحكيم، يتوقف على وجوده إمكانية تنفيذ حكم التحكيم من عدمها، فقد أعطى المشرع العراقي حقاً للأطراف، وللمحكمة المطلوب منها تصديق حكم التحكيم إبطال الحكم، إذا كان صادراً، وفقاً لاتفاق باطل( ).
كما أعطت اتفاقية نيويورك لعام 1958 لقاضي دولة التنفيذ الحق برفض تنفيذ أحكام المحكمين المستندة إلى اتفاق غير صحيح، بناءً على طلب الطرف الخاسر في الحكم( ). وكذلك الحال في اتفاقية الرياض لعام 1983، التي أعطت للمحكمة المطلوب منها التنفيذ، رفض تنفيذ الحكم، إذا كان صادراً تنفيذاً لشرط، أو لعقد تحكيم باطل( ).
وللوقوف على مسألة وجود اتفاق التحكيم، ينبغي الاعتداد بمجموعة عناصر ضرورية من أهمها:
أولاً: كتابة الاتفاق: فقد قررت اتفاقية نيويورك لعام 1958 في المادة (2/1) منها على أن: "تعترف كل دولة متعاقدة بأي اتفاق مكتوب يتعهد فيه الطرفان بأن يحيلوا إلى التحكيم جميع الخلافات..." ، فظاهر نص المادة المتقدمة يوحي باعتبار الكتابة ركناً في اتفاق التحكيم ولا يثبت وجوده إلا بها، وهذا ما أكده الفقه( ). وعلى العكس من ذلك، يرى بعض الفقه( ) أن الكتابة شرط لإثبات اتفاق التحكيم، وليس لوجوده، ذلك لأن الاتفاقية لم ترتب على انعدام الكتابة بطلان اتفاق التحكيم في نص صريح، كما فعلت بعض التشريعات.
ونحن نرجح الرأي الأخير، لأن الأصل في التحكيم، أنه عقد رضائي، لا يتطلب شكلية معينة( )، إلا إذا قرر المشرع ذلك. وقد ساير المشرع العراقي هذا الاتجاه، إذ نصت المادة (252) من قانون المرافعات على أنه: "لا يثبت اتفاق التحكيم إلا بالكتابة.
كما تبنى المشرع اللبناني هذا الموقف أيضاً( )، وإذا كان الأمر كذلك، نرى ضرورة مراعاة التوسع في مفهوم الكتابة ليلائم ما يجري عليه العمل في الجانب الإلكتروني، ومن إيجابيات ذلك، إمكانية إثبات اتفاق التحكيم بطرق الإثبات الكتابية، والإلكترونية، والمراسلات التي تحدث بين الطرفين، سواء كانت إلكترونية، أو تقليدية كتابية، أو شفوية، على أن فكرة اتفاق التحكيم الشفوي قد تؤدي إلى التزوير في استصدار أحكام تحكيم وهمية، ليست مبنية على إرادة المحكوم ضده، وإنما يتم بالاتفاق مع بعض المزورين إنشاء شرط تحكيم مزور( ).
ثانياً: التراضي: من عناصر وجود اتفاق التحكيم صدوره عن الأطراف بالتراضي حيث يشترط لوجوده، أن تكون إرادة الأطراف قد صدرت سليمة، من عيوب الرضا كالغلط، والتدليس، والإكراه، والاستغلال. فلا بد من تلاقى إيجاب وقبول الطرفين، تلاقياً حراً سليماً، على اختيار التحكيم وسيلة لحل نزاعهم.
ثالثاً: تحديد موضوع النزاع: ويشترط أيضاً، لوجود الاتفاق التحكيمي، ومن ثم لصحته، تحديد نطاق النزاع المراد إحالته إلى التحكيم، تحديداً دقيقاً عند كتابته، وذلك تحت طائلة اعتباره باطلاً ومنعدم الوجود، ويجرد سلطة المحكمين للفصل في النزاع( ).
وفي هذا الصدد، قضت محكمة التمييز العراقية أنه: "إذا كانت موافقة الخصم على إحالة الدعوى على التحكيم غير مقيدة، فان التحكيم يشمل كافة الأمور، التي قام عليها النزاع بين الطرفين"( ).
رابعاً: المهلة الزمنية: كذلك تطرح مسألة قيام الاتفاق من الناحية الزمنية، كعنصر آخر من عناصر وجود اتفاق التحكيم، حيث أن التشريعات تفرض مهلة زمنية لكل تحكيم من الواجب على المحكمين إصدار قرارهم خلالها( )، وإلا عدّ هذا الحكم باطلاً، لصدوره بعد انقضاء اتفاق التحكيم، هذا ما لم يتفق الأطراف على تمديد هذه المهلة، والاتفاق قد يكون صريحاً، وقد يكون ضمنياً، وفي الحالة الأخيرة، تعد مشاركة المدعي بعدم صحة اتفاق التحكيم مع خصمه، في جلسة بعد انقضاء المهلة القانونية لصدور الحكم، وإبدائه ملاحظاته دون اعتراض يشكل مشاركة فعالة من قبله تبرهن على القبول بالتجديد الضمني لمدة التحكيم، الذي يعتبر مقرراً باتفاق الأطراف.
خامساً: قصر التحكيم على اتفاق الأطراف: يرتبط وجود اتفاق التحكيم بمبدأ نسبية أثر اتفاق التحكيم، فيمثل هذا الارتباط عنصراً آخر من عناصر وجود الاتفاق، وخلاصة هذا المبدأ إن اتفاق التحكيم مجرد عقد كأي عقد آخر لا يرتب آثاره إلا بالنسبة للأشخاص التي قامت بالتوقيع عليه. فالأصل أن يقتصر التحكيم على أطرافه، والمقصود بالطرف، هو من أبرم اتفاق التحكيم بنفسه، أو بمن يمثله.
واستثناء من هذا الأصل، يجوز مد أثر اتفاق التحكيم على الغير الذي لم يوقع عليه إذا كانت الظروف المحيطة به تظهر أن هذا الغير بتدخله في العملية التعاقدية، في أي مرحلة من مراحلها يعد بمثابة طرف يحتج عليه بشرط التحكيم الوارد فيه، ويمكنه هو أيضاً أن يتمسك به، وذلك بالاستناد إلى تفسير إرادة الأطراف( ).
وبناءً على ما تقدم ذكره من عناصر اتفاق التحكيم، يتوجب على القاضي الوطني التأكد من وجود اتفاق التحكيم ليس فقط في مرحلة المحاكمة وإنما يتأكد من وجوده أيضاً بعد صدور حكم التحكيم( )، عند طلب المحكوم ضده رفض التنفيذ، استناداً إلى بطلان اتفاق التحكيم.

الفرع الثاني
الشروط المتعلقة بأطراف النزاع
إن اتفاق التحكيم شأنه شأن أي عقد أخر يقتضي إبرامه ممن هو أهلا له، وإذا كان شرط الأهلية في العقود ضروري لحماية أطرافها من عدم تحمل الالتزامات الواقعة عليها بسبب عدم صلاحيتها لذلك، فان هذه الحماية تكون ضرورية عند إبرام اتفاق التحكيم أكثر من أي عقد آخر، ذلك لأنه سوف يسلب ولاية القضاء المختص في النظر في النزاع موضوع التحكيم، لذلك سنقسم هذا الفرع كالآتي:
الفقرة الأولى: أهلية الشخص الخاص:
يشترط فيمن يقدم على إبرام اتفاق التحكيم، أن يكون أهلاً لذلك، فاتفاق التحكيم شأنه شأن باقي العقود، يتطلب لإبرامه توافر الأهلية اللازمة كشرط لصحة الاتفاق، والمقصود من الأهلية في هذا المقام القدرة القانونية للشخص لإبرام اتفاق التحكيم، وهي من أساسيات اللجوء للتحكيم.
وقد نصت المادة (254) من قانون المرافعات العراقي على أن: "لا يصح التحكيم.... إلا ممن له أهلية التصرف في حقوقه..."، متأثراً بموقفه هذا بموقف المشرع المصري( ).
كما اعتبرت اتفاقية نيويورك، لعام 1958 انعدام الأهلية سبب من أسباب رفض التنفيذ، إذ نصت المادة (5/1/أ) من الاتفاقية على أن: "لا يجوز رفض الاعتراف بالقرار وتنفيذه... إلا إذا قدم ذلك الطرف... ما يثبت... أ- إن طرفي الاتفاق كانا بمقتضى القانون المنطبق عليهما، في حالة من حالات انعدام الأهلية. وقد اتخذ القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لعام 2006 بدوره هذا النص، وكرسه أيضاً كأحد أسباب رفض التنفيذ( ).
وأهلية التصرف التي يتطلبها القانون، هي أهلية الأداء( )، لأن اتفاق التحكيم يعد من التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، فلا هو ضرر محض، ولا هو نفع محض.
وبناءً على ذلك، لا يلزم لإبرام اتفاق تحكيم اكتساب الشخص أهلية التبرع، كما لا يكفي اكتسابه لأهلية التقاضي، وإنما أهلية التصرف في الحقوق. ونتيجة لهذا الشرط، لا يصح اتفاق التحكيم من عديم الأهلية، أو القاصر، أو المحجور عليه.
والأصل إن كل شخص أهل للتعاقد ما لم يقرر القانون عدم أهليته، أو يحد منها، وسن الرشد، هو ثماني عشرة سنة كاملة، وفقاً للقانون العراقي، فيصح اتفاق التحكيم من الشخص البالغ تلك السن.
بالنسبة للأشخاص الاعتبارية الخاصة، وبالخصوص منها الشركات، فيكون لرئيس مجلس إدارة الشركة أو للمدير العام إن لم تكن الشركة شركة مساهمة، سلطة كاملة في الإدارة وفي التصرف في أموال الشركة، في حدود تحقيق أغراضها. وعلى ذلك، يكون لمجلس الإدارة سلطة إبرام اتفاق التحكيم.
وعلى الرغم من عدم تطرق قانون المرافعات العراقي، لأهلية الأشخاص الاعتبارية الخاصة لإبرام اتفاق التحكيم، وسكوت قانون الشركات العراقي رقم 21 لسنة 1997 والمعدل سنة 2004 عن هذه المسألة، إلا إننا نرى أنه لا يوجد ما يمنع الشركات من إبرام اتفاق التحكيم، خاصةً، وان التحكيم أصبح من الوسائل التي تحسم النزاعات، ذات الطابع الاقتصادي، والتجاري، وهو بتلك المثابة صار من مستلزمات إدارة الشركات التجارية والطريق العادي لفض منازعاتها، على أن تراعى أهلية ممثل الشركة لإبرام اتفاق التحكيم وإلا كان الاتفاق باطلاً، ولا تلزم الشركة به كما يتوجب صدور التوقيع على اتفاق التحكيم، ممن هو مخول بإبرامه
الفقرة الثانية: أهلية الشخص العام:
المقصود من أهلية الشخص العام، صلاحية وإمكانية الدولة، أو مؤسساتها العامة لإبرام اتفاق التحكيم( ).
والملاحظ أن أهلية الشخص العام لإبرام اتفاق التحكيم من أكثر المسائل المرصودة جدلاً في فقه التحكيم( )، ذلك لأن لجوء أشخاص القانون العام إلى التحكيم، يعني في واقع الحال، وضع هؤلاء الأشخاص موضع الشخص العادي، أمام قضاء خاص، هو قضاء التحكيم، بما ينطوي عليه من حرمانها من مزاياها السيادية( )، في الوقت الذي ترفض فيه الدولة، وأشخاصها العامة اللجوء إلى قضائها المدني، لحل النزاعات الناشئة عن عقودها( ).
وفي ظل هذا التصور، تباينت مواقف الدول حول مدى مشروعية التحكيم، الذي تبرمه الأشخاص العامة، ونطاق المنازعات الإدارية، التي يشملها التحكيم، وقد كرس هذا التباين موقف اتفاقية نيويورك لعام 1958 التي جعلت تحديد أهلية الدولة، وأشخاصها العامة لإبرام اتفاقات التحكيم، وفقاً لقانونها( ). إذ قبلت اتفاقية نيويورك خضوع اتفاقات التحكيم، التي تبرمها الأشخاص الاعتبارية لها( )، فلا إشكال في هذا الأمر، من حيث المبدأ.
بالنسبة لموقف المشرع العراقي بهذا الخصوص، نراه قد تباين بين ثلاث مراحل:
1- بعد أن صادق العراق على بروتوكول التحكيم لعام 1923، بالقانون رقم (34) لسنة 1928، اعتمد المشرع العراقي، التحكيم كوسيلة لحل النزاعات التي تنشأ عن تنفيذ الكثير من العقود، التي أبرمتها الدولة العراقية داخلياً ودولياً. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ما نصت عليه المادة (41) من قانون تصديق الاتفاقية المعقودة بين الحكومة العراقية، وشركة نفط البصرة البريطانية، رقم (68) لعام 1938 من أنه:
"إذا نشأ خلاف أو نزاع بين الحكومة والشركة في تغيير هذه الاتفاقية أو تنفيذها ... تحال القضية حينئذ إلى حكمين اثنين".
كما نصت المادة (35/1) من قانون تصديق عقد المقاولة الخاص بالتنقيب عن النفط، وإنتاجه، وتسويقه رقم (5) لسنة 1968 على أن: "تحل في النهاية عن طريق التحكيم كافة المنازعات الناشئة من تطبيق أحكام هذا العقد". ففي تلك المرحلة، لم يمنع المشرع العراقي أشخاص القانون العام (الدولة وهيئاتها)، من إبرام اتفاق التحكيم.
2- صدور قرار ديوان التدوين القانوني، (سابقاً) مجلس شورى الدولة (حالياً) رقم (132)، لعام 1978، الذي اتخذ من شرط التحكيم موقفاً عدائياً، " فيتم اللجوء إليه بمنتهى الحيطة، والحذر، وقبل كل شيء يجب التماس رأي الجهات العليا، وموافقتها بصدده باعتباره يشكل استثناء من القاعدة، ذلك لأن الأصل سيادة القضاء العراقي، ووضع شرط التحكيم الدولي في عقود الدولة إنما يعني التجاوز على مبدأ سيادة الدولة العراقية".
وقد كرس المشرع العراقي بدوره الموقف العدائي المذكور من شرط التحكيم في العقود الإدارية في قانون حماية الأموال والمصالح، والحقوق العراقية، في داخل العراق وخارجه رقم (57) لسنة 1990، حيث نصت المادة (6) منه على أن: " تمتنع المحاكم وهيئات التحكيم العراقية من النظر في أية دعوى تقام داخل العراق ضد الحكومة العراقية أو مؤسساتها أو شركاتها أو أية جهة حكومية أو أي شخص عراقي طبيعي، أو معنوي، ... ولا يعتد بأي قانون أو قرار مهما كانت طبيعته صدر ويصدر عن أية محكمة أو هيئة تحكيمية أو آية جهة أخرى في الخارج...".
يتضح لنا من هذه المرحلة أن موقف العراق من إدراج شرط التحكيم، في العقود الإدارية، موقف عدائي، منغلق، يُبرر بالسيادة وبحماية مصالح العراق( ).
ولا يقتصر الأمر على العراق، إذ كانت كثير من الدول تكرس مبدأ منع الدولة، من اللجوء إلى التحكيم، وذلك إما على أساس مبدأ الفصل بين السلطات الإدارية والسلطات القضائية، أو على أساس تعلق المنازعات الإدارية بالنظام العام، أو على أساس عدم أهلية الدولة، لإبرام اتفاق التحكيم( ).
كما أن عامل الشك في العدالة التحكيمية، كان سبباً آخر لمنع الدولة، من اللجوء إلى التحكيم، بسبب التخوف من إهمال الهيئات العامة الدفاع عن المصلحة العامة، التي يضعها القضاء الوطني نصب عينيه( ).
3- إن إدراك الدول، ومنها العراق، لدور التجارة الدولية، في عملية التنمية، وتفهمه للدور الحمائي، والتشجيعي، الذي يقوم به شرط التحكيم، وخصوصاً في عقود الاستثمار، أدى به إلى الانتقال إلى مرحلة جديدة بهذا الخصوص، فقد حدد المشرع العراقي، نطاق المسائل التي يشملها شرط التحكيم بالنسبة لعقود الاستثمار التي تبرمها الدولة وهي المسائل التجارية حصراً، إذ نصت المادة (27) من قانون الاستثمار العراقي رقم (13) لسنة 2006 على أن: "المنازعات الناشئة بين الهيئة هيئة الاستثمار (العراقية أو أي جهة حكومية وبين أي من الخاضعين لأحكام هذا القانون... تخضع للقانون والمحاكم العراقية في المسائل المدنية، أما في المنازعات التجارية فيجوز للأطراف اللجوء للتحكيم على أن ينص على ذلك في العقد المنظم للعلاقة بين الأطراف".
وبناء عليه، تضع وزارة النفط العراقية، في الوقت الحالي، عقداً نموذجياً لإبرام عقود الخدمة النفطية، مع شركات النفط الأجنبية، يتكون من (43) مادة، وقد ضمنته شرط التحكيم لحل ما ينشأ من نزاعات بين الطرفين الوزارة و شركات النفط الأجنبية، فتنص المادة (37/3) من العقد على: "إن جميع النزاعات الناشئة عن هذا العقد أو ما يتصل به، باستثناء النزاعات التي تمت تسويتها بشكل نهائي بالإحالة إما إلى الإدارات العليا أو للخبير، تتم تسويتها بموجب أنظمة التحكيم لدى غرفة التجارة الدولية، بواسطة ثلاثة محكمين معينين وفقاً لتلك الأنظمة( ).

المطلب الثاني
الشروط المتعلقة بالخصومة
إن الشروط المتعلقة باتفاق التحكيم باعتباره أساس المهمة التحكيمية للمحكم، ومصدر سلطاته، والذي يصدر، بناءً عليه حكم يحسم النزاع ويلزم الخصوم، وإذا كان التحكيم اتفاقي النشأة قضائي الحكم، فان الاتفاق، سيكون بوابة الدخول إلى السير في الخصومة التحكيمية، إذ لا يمكن للمحكم إصدار حكم قابل للتنفيذ من غير خصومة، تكون لها شروطها وظروفها الموضوعية، ويراعى أن دراسة شروط الخصومة التحكيمية، لا يمكن أن تتم بمعزل عن شروط الحكم التحكيمي، لأنه سيصدر بناء على عدة إجراءات، اتبعها كل من الأطراف والمحكمين، الذين يتوجب عليهم تسيير الخصومة باتجاه حسم النزاع بحكم فعال، قابل للتنفيذ، وفقا للنظام، أو الأنظمة القانونية، المرجو تنفيذه في ظلها.
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المطلب إلى فرعين، سنتطرق في الفرع الأول لدراسة الشروط المتعلقة بمرحلة المحاكمة، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لدراسة الشروط المتعلقة بالحكم.
الفرع الأول
الشروط المتعلقة بمرحلة المحاكمة
إن أهم خصائص سير الخصومة التحكيمية، هو طابعها الاتفاقي الخاص، القائم على إرادة الأطراف، حيث يكون للأطراف حرية اختيار المحكمين وحرية اختيار القواعد التي تنظم إجراءات التحكيم، كما أن لهم تسيير إجراءات التحكيم، وفقا لإرادتهم، إلا أن هذه الحرية قد تتقاطع مع الضوابط القانونية، التي تحكم التقاضي والمحاكمة، خصوصا المبادئ الأساسية للتقاضي، والتي يؤدي عدم مراعاتها إلى الإخلال بحقوق الدفاع، فان على المحكم، وهو في سبيل تحقيق مهمته القضائية مراعاة هذه الضوابط والشروط، لبيان ذلك سنقسم هذا الفرع كالآتي:
الفقرة الأولى: شرط صحة الإجراءات:
يشترط لاكتساب حكم التحكيم لقوته التنفيذية، صدوره عن هيئة تحكيم مشكلة تشكيلاً صحيحاً، وبناء على إجراءات صحيحة، وفقاً للقانون المطبق عليها، أو وفقاً لاتفاق الطرفين وهو ما نصت عليه التشريعات الوطنية، والاتفاقيات الدولية، كسبب من أسباب البطلان، أو رفض التنفيذ عند عدم مراعاته( ).
فقد نصت المادة (273/4) من قانون المرافعات العراقي على أن: "يجوز للخصوم عندما يطرح قرار المحكمين على المحكمة المختصة أن يتمسكوا ببطلانه وللمحكمة من تلقاء نفسها أن تبطله في الأحوال الآتية: ... 4- إذا وقع خطأ جوهري في القرار أو في الإجراءات التي تؤثر في صحة القرار وتنص المادة (265/1) على أن يجب على المحكمين إتباع الأوضاع والإجراءات المقررة في قانون المرافعات إلا إذا تضمن الاتفاق على التحكيم أو أي اتفاق لاحق عليه إعفاء المحكمين منها صراحة أو وضع إجراءات معينة يسير عليها المحكمون".
وقد نصت المادة (5/1/د) من اتفاقية نيويورك لعام 1958 على أن: "لا يجوز رفض الاعتراف بالقرار وتنفيذه، بناء على طلب الطرف المحتج ضده بهذا القرار، إلا إذا قدم ذلك الطرف ما يثبت أن تشكيل هيئة التحكيم أو أن إجراءات التحكيم لم تكن وفقاً لاتفاق الطرفين أو وفقاً لقانون البلد الذي جرى فيه التحكيم".
وتأسيساً على ذلك، يكون للمحكمة المطروح عليها حكم التحكيم لتنفيذه، إبطاله من تلقاء نفسها، وبناءً على طلب الأطراف وفقاً للقانون العراقي - ورفض تنفيذه بناءً على إثارة الأطراف، وفقاً لاتفاقية نيويورك، إذا ما تبين عدم صحة تشكيل هيئة التحكيم، وعدم صحة إجراءاته، استناداً لاتفاق الأطراف، أو لقانون دولة التحكيم.
أما عن تنظيم إجراءات التحكيم وفقا للقانون العراقي، ففي الفرض الذي يخلو اتفاق التحكيم، من أي إشارة لتنظيم إجراءات التحكيم، وتشكيل هيئته في العراق يكون قانون المرافعات العراقي، هو الواجب التطبيق بهذا الشأن. وبناء على ذلك، تقتضي صحة إجراءات التحكيم مراعاة الاعتبارات الآتية:
1. وترية الهيئة التحكيمية: يشترط قانون المرافعات العراقي لصحة تشكيل هيئة التحكيم وترية عدد المحكمين، إذ تنص المادة (257) منه على أن: "يجب عند تعدد المحكمين أن يكون عددهم وتراً". وبناءً على ذلك قضت محكمة التمييز العراقية بأن صدور القرار التحكيمي من محكمين اثنين، دون إشراك المحكم الثالث عيب جوهري يشوب القرار مما يوجب إبطاله( ).
والوترية تعني أن يكون عدد المحكمين فردياً، وهو أمر يعد من المبادئ الشائعة، في الكثير الأنظمة القانونية( )، وذلك للتغلب على مشكلة التساوي في آراء المحكمين، وهو ما كرسه المشرع الفرنسي أيضاً، في المرسوم رقم (48) لسنة 2011 حول تعديل النصوص المتعلقة بالتحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية( ). وقد نصت عليه المادة (15) من قانون التحكيم المصري لعام 1994، بصورة تجعل مبدأ وترية الهيئة التحكيمية، من النظام العام( ).
وفي حالة عدم اتفاق الأطراف على المحكمين، أو على عددهم بعد قيام النزاع، أو امتنع أحد المحكمين عن العمل، أو قام مانع من مباشرة عمله، فيكون للأطراف مراجعة المحكمة المختصة بنظر النزاع، لتعيين المحكم أو المحكمين بعد تبليغ باقي الخصوم، وسماع أقوالهم( ).
2. أن يكون المحكم شخصاً طبيعياً: ويتوجب أن يكون المحكم شخصاً طبيعياً( )، على أن لا يكون من رجال القضاء، إلا بإذن من مجلس القضاء الأعلى، ولا يجوز أن يكون قاصراً، أو محجوراً، أو محروماً من حقوقه المدنية، أو مفلساً، لم يرد اعتباره( )، كما يجب أن يكون قبول المحكم التحكيم كتابةً ما لم يكن معيناً من قبل المحكمة( ).
3. لا يجوز للمحكم بعد قبول التحكيم، أن يتنحى بغير عذر مقبول( )، ويراعي، قيام المحكمين بالفصل في النزاع على أساس عقد التحكيم، وشروطه والمستندات، وما يقدمه الخصوم لهم وعلى المحكمين أن يحددوا لهم مدة لتقديم لوائحهم، ومستنداتهم ويجوز لهم الفصل في النزاع بناء على الطلبات والمستندات المقدمة من جانب واحد إذا تخلف الطرف الآخر عن تقديم ما لديه من أوجه الدفاع، في المدة المحددة( ).
4. ويتوجب أن يصدر المحكمون قرارهم بالاتفاق، أو بأكثرية الآراء بعد المداولة القانونية فيما بينهم مجتمعين، ويجب كتابته بالطريقة التي يكتب بها الحكم الذي يصدر من المحكمة( )، فقرار التحكيم الذي يصدر على غرار تقرير الخبراء باطل ولا قيمة له( )، كما يجب أن يشتمل القرار بوجه خاص على ملخص اتفاق التحكيم، وأقوال الخصوم ومستنداتهم وأسباب القرار ومنطوقه والمكان الذي صدر فيه، وتاريخ صدوره، وتواقيع المحكمين( ).
ويلاحظ في الموقف المتقدم أن المشرع العراقي قد نظم عملية اختيار المحكم في تحكيم الحالات الخاصة، دون الإشارة إلى التحكيم المؤسسي، الذي وجد من أجل منازعات التجارة الدولية.
5. بالإضافة إلى ما تقدم يفترض قيام المحكم بعمله على وجه الاستقلال، والحياد، باعتبارهما أهم الضمانات اللازمة لنجاح التحكيم، ويتجسد استقلال المحكم، بعدم تأثر إرادته بالفرقاء، حين الفصل في النزاع، كما يتجسد حياده بالنزاهة والتجريد، وعدم التحيز لأحد الخصوم( ).
6. ويفترض أيضاً أن اشتراط الخصوم انتقاء المحكمين من الجنسية، التي يحملونها، أو الدين الذي يدينون به، أو الثقافة التي تسود وسطهم، لا ينال من موضوعية، وحياد، واستقلال المحكمين. وإذا كانت جنسية المحكم، لا تشكل عائقاً دون عمله في القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي( ).
الفقرة الثانية: شرط احترام حقوق الدفاع:
إذا كان التحكيم يعني بالنسبة لأطرافه، نظاماً قضائياً خاصا، أو استثنائياً، يقوم على أساس سلب اختصاص القضاء الرسمي، بالنسبة للنزاع، وعدم التقيد بقواعد، وأصول قوانين المرافعات المدنية بالنسبة للمحكم، فإن ذلك لا يعني في نفس الوقت، عدم مراعاة ضمانات وقواعد التقاضي الأساسية التي تقرها، وتحترمها غالبية تشريعات ومحاكم العالم، ومن أهم قواعد التقاضي الأساسية حق الدفاع، الذي يعتبر مبدأ ذا مفهوم واسع، لانطوائه على عدة وسائل يستند إليها لتحقيقه.
لذا، عرف جانب من الفقه( )، حق الدفاع بأنه حق يشمل كافة المكنات والوسائل التي يجب توفيرها لكل خصم على قدم المساواة لتكوين الرأي القضائي لصالحه، وهو بهذه المثابة يعد جوهر المركز القانوني للخصم باعتباره مركزاً إجرائياً".
ويقسم الفقه( )، حقوق الدفاع إلى قسمين: حقوق دفاع أساسية، وتشمل حق الدفع والإثبات وحقوق دفاع مساعدة، وتشمل حق العلم بالإجراءات وحق الاستعداد للمرافعة وحق الحضور، وحق الاستعانة بمحام.
ولتأكيد أهمية حق الدفاع في خصومة التحكيم، فقد اعتبر غالبية الفقه( )، احترام هذا الحق، من القواعد الدولية، الموضوعية، التي يعتنقها الضمير الإنساني، وهو ما أكدته، اتفاقية نيويورك لعام 1958 من خلال النص على هذا المبدأ، دون إسناده لأي قانون وضعي معين.
ومن أجل ذلك، فقد أعطت الأنظمة القانونية الحق لكل من انتهك حقه في الدفاع، في خصومة التحكيم بطلب رفض تنفيذ الحكم التحكيمي، أو الطعن ببطلانه.
فقد نصت المادة (5/1/ب) من اتفاقية نيويورك على أن: "لا يجوز الاعتراف بالقرار وتنفيذه بناء على طلب الطرف المحتج ضده بهذا القرار، إلا إذا قدم ذلك الطرف إلى السلطة المختصة التي يطلب إليها الاعتراف والتنفيذ ما يثبت أن الطرف الذي يحتج ضده بالقرار لم يخطر على الوجه الصحيح بتعيين المحكم أو بإجراءات التحكيم أو كان لأي سبب آخر غير قادر على عرض قضيته"( ).
وقد تضمنت اتفاقية الرياض لعام 1983 في المادة (37/د)، حالة من الحالات التي تبيح للمحكمة المعروض عليها قرار التحكيم لتنفيذه، رفض تنفيذه للإخلال بحقوق الدفاع وهي عدم إعلان الخصوم بالحضور إعلاناً صحيحاً. ويلاحظ أن الاتفاقية الأخيرة لم تتطرق لحالة خرق المحكمين، أو أحد الخصوم لحقوق الدفاع، أو حرمان طرف، في عملية التحكيم، على حساب طرف، أو عدم قدرة أحد الأطراف على تقديم دفاعه، لعذر مشروع، مما يدفعنا إلى التساؤل عن حكم هذه الحالات؟، ومدى إمكانية المحكمة المطلوب منها التنفيذ، رفض التنفيذ، عند صدور الحكم، مع وجود إحدى هذه الحالات؟
وعلى الرغم من سكوت الاتفاقية بهذا الخصوص إلا أننا نرى إمكانية الاستناد إلى نص المادة (37/هـ) برفض التنفيذ، عند تجاوز حقوق الدفاع، بناء على مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية، والنظام العام.
وعلى الرغم من عدم تضمن قانون المرافعات العراقي، نصاً مباشراً، يبيح للمحكمة المطروح عليها القرار التحكيمي، من أجل تنفيذه، أو إبطاله لخرق حقوق الدفاع، إلا أن ذلك، لا يمنع، إبطال الحكم، أو رفض تنفيذه، استناداً إلى مخالفة الحكم للنظام العام، أو وقوع خطأ في الإجراءات، التي تؤثر في صحة القرار( )، وقد كرس كل من القانون الفرنسي( )، والمصري( )، واللبناني( )، تجاوز حق الدفاع، كسبب من أسباب بطلان حكم التحكيم.
الفرع الثاني
الشروط المتعلقة بالحكم
يلجأ الأطراف إلى التحكيم، ليحسموا النزاع الذي تخاصموا من أجله، ويكون ذلك بمجرد إصدار حكم يحسم النزاع، قد لا يجدي نفعاً، إذا كان هذا الحكم غير قابل للتنفيذ، إذ تكون رغبة الأطراف غير محددة بإصدار حكم فحسب، بل يقع على عاتق المحكم إصدار حكم فاعل قابل للتنفيذ، واقتضاء الحق، الذي جاء في منطوقه، ولا يكون ذلك إلا من خلال تخويل المحكم في اتفاقهم، بحسم النزاع، بعد سلسلة إجراءات، بإصدار حكم فاصل في النزاع، فالحكم التحكيمي هو غاية اللجوء إلى التحكيم، بل هو الثمرة والجدوى منه إلا إن مراعاة ضوابط وشروط فعالية الحكم في النظام القانوني المراد تنفيذه فيه.
وبناء على ذلك، سوف نتناول شروط الحكم التحكيمي التي تجعله قابلا للتنفيذ من خلال تقسيم هذا الفرع كالآتي:
الفقرة الأولى: تقيد الحكم باتفاق الأطراف:
من الثابت أن المحكم يستمد سلطته، وولايته من اتفاق الأطراف، سلطته ومصير يتعلق دائمًا بوجود الاتفاق، وصحته، فاتفاق التحكيم هو المصدر، والمرجعية التي تتحدد على أساسها المهمة التحكيمية، بل هو دستور التحكيم الذي يحدد نطاق سلطة المحكم. وينبني على ذلك، إذا قام المحكم بالفصل في النزاع دون اعتماد حيثياته التي رسمها الأطراف في اتفاقهم على إحالة النزاع على التحكيم، فإن حكمه سيكون معيباً على أساس، إما عدم وجود الأساس الاتفاقي لما فصل فيه، أو تجاوزه للمهمة المخولة إليه من قبل الأطراف، وحكم التحكيم المبني على هذا الأساس - تجاوز المحكم اتفاق الأطراف فيما -فصل - يستوجب عدم منحه قوة التنفيذ، إذا ما أثبت الطرف المحكوم ضده، عدم تقيد المحكم بالنزاع المطروح عليه.
وهو ما كرسه قانون المرافعات العراقي، فالمادة (273/1) من قانون المرافعات العراقي تسمح للمحكمة المعروض عليها الحكم لتصديقه وللأطراف بإبطال قرار التحكيم "إذا كان قد ... خرج عن حدود "الاتفاق"( ). ومبدأ التقيد بإرادة الأطراف يشترك في تبينه كل من القانون الفرنسي( )، واللبناني( )، فتعد عدم مراعاته سبب من أسباب البطلان وفقاً لهذه الأنظمة القانونية.
وقد سبقت اتفاقية نيويورك، الأنظمة القانونية الوطنية، في تكريس المبدأ المتقدم، فقد جاء في المادة (1/5/ج) من اتفاقية نيويورك، التي أجازت طلب رفض تنفيذ حكم التحكيم، إذا تبين أن القرار يتناول خلافا لم تتوقعه أو لم تتضمنه شروط الإحالة إلى التحكيم، أو أنه يضمن قرارات بشأن مسائل مختلفة تتجاوز نطاق الإحالة إلى التحكيم".
ومن النص المتقدم، يتضح أنّ الاتفاقية تشتمل على فرضين: أولهما، أن القرار يتناول خلافاً لم تتوقعه أو تتضمنه شروط الإحالة إلى التحكيم، وهو سبب محدد، وواضح لرفض التنفيذ لأنه فصل في مسألة تقع خارج نطاق الاتفاق على التحكيم، وثانيهما، تجاوز القرار لاتفاق الأطراف بما فصل فيه من مسائل مختلفة، وفي هذه الحالة الأخيرة، يتطلب الأمر من قاضي دولة التنفيذ، أن يتثبت ليس من تضمن الحكم لنزاع لم يحيله الأطراف إلى المحكم، بل من تضمن الحكم ما يفيد تجاوز المحكم لنقاط النزاع التي يثيرها الأطراف من التفاصيل الدقيقة، التي تستوجب المراجعة الموضوعية للحكم، للوقوف على حقيقة التجاوز من أجل منح الأمر بالتنفيذ، أو رفضه.
الفقرة الثانية: إلزامية الحكم:
تنص المادة (5/1/ هـ) من اتفاقية نيويورك لعام 1958 على: "لا يجوز رفض الاعتراف بالقرار وتنفيذه بناء على طلب الطرف المحتج ضده بهذا القرار، إلا إذا قدم، ذلك الطرف إلى السلطة المختصة، التي يطلب إليها الاعتراف والتنفيذ ما يثبت أن القرار لم يصبح بعد ملزما للطرفين"، ولم توضح الاتفاقية ما هو المقصود بكون حكم التحكيم ملزماً حتى يمكن تنفيذه، وإنما تركت ذلك لقضاء الدول التي يطرح عليها الحكم لتنفيذه.
وقد تبنى القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي، بصيغته المعتمدة لعام 2006 نفس المفهوم، دون التوضيح أيضاً، متى وكيف يكون الحكم ملزماً، الأمر الذي يؤدي إلى أن هذا المصطلح يكتنفه الغموض للوقوف على معناه، والخلط، واللبس عندما يراد لحكم التحكيم ترتيب آثاره.
ذلك لأن الفقه، يكاد يكون مجمعاً على حيازة الحكم التحكيمي الصفة الإلزامية بمجرد صدوره قطعياً لاكتسابه حجية الأمر المقضي، فيما فصل من نزاع( )، وهي حجية، منحها المشرع للقرار التحكيمي في كثير من البلدان( ).
وعلى ذلك الأساس لم تحظ اقتراحات البعض في الفريق العامل على تعديل قواعد الأونسيترال بالتأييد في تعديل عبارة نهائي وملزم"، التي تطلق على حكم التحكيم بعد صدوره، بحجة أنها قد تثير الخلط واللبس، ذلك لأن النهائية والإلزام في القرار، هي سمة، ينبغي توخيها كي تمتنع محكمة التحكيم من تعديل القرار بعد صدوره من جهة، وتلتزم الأطراف بنتائج القرار من جهة أخرى، وتمتنع المحاكم عن النظر في القرار، من خلال طرق الطعن العادية وغير العادية، ما عدا البطلان، وفي حالات محصورة، واستثنائية من جهة ثالثة( ).
وإذا كان مفهوم حكم التحكيم النهائي والملزم"، يتمثل بالمعنى المتقدم في قواعد تحكيم الأونسيترال، فإن القضاء بدوره، لم يخرج عن إطار هذا المفهوم، فقد ذهبت المحكمة العليا في إنكلترا، بمناسبة تنازع طرفا التحكيم حول عبارة يكون قرار التحكيم نهائي، وحاسم، وملزم"، التي اتفقا على إدراجها ضمن اتفاق التحكيم، إلى أنّ هذه الأوصاف الثلاث، لم تعبر سوى عن مفعول حجية القضية المقضية لحكم تحكيمي صحيح صدر باتفاق الأطراف، فهو ملزم، لأن كل فريق يتعهد احترام الحكم، وتنفيذه، ويعد نهائياً لأنه يمنع الأطراف، من تقديم الطلبات نفسها مرة أخرى، وهو حاسم لأنه يثير مسألة الاستوبل( ).
الفقرة الثالثة: فعالية الحكم:
نقصد بفعالية الحكم قابليته للتنفيذ، ببقائه محتفظا بشروط، وخصائص صحته، وعدم النيل منه بطلاناً، أو إيقافاً. وتثار مسألة الفعالية في النطاق الدولي على الخصوص، إذ لا يتصور إمكانية بقاء حكم التحكيم فعالاً، في بلد صدوره بعد إبطاله، من قبل المحكمة الوطنية المختصة.
فتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي أو الدولي يقتضي صدوره فعالاً وبقائه محتفظاً بقابليته للتنفيذ، وذلك احتراماً وتسليماً لمبدأ ازدواجية الرقابة القضائية على أحكام التحكيم"( ).
فمن المعلوم أن اتفاقية نيويورك لعام 1958 تعطي لقضاء الدولة المطلوب منها التنفيذ في المادة (5/1/هـ) إمكانية رفض تنفيذ القرار، بناءً على طلب الطرف المحتج ضده بالقرار، إذا اثبت أن القرار أبطل، أو أوقف تنفيذه من محاكم دولة صدوره، وبيان ذلك أن اتفاقية نيويورك منحت دولة صدور الحكم الاختصاص بالطعن بالبطلان على الحكم التحكيمي ومن ثم فإن الحكم بالبطلان الصادر من المحاكم المختصة، يفترض فيه، أن يعدم اثر الحكم التحكيمي بحيث لا يكون هناك حكم يمكن تقديمه لطلب تنفيذه( )، ويترتب على ذلك، إن الاتفاقية ربطت تنفيذ أحكام التحكيم بسلامتها في بلد المنشأ( )، ومن مقتضيات هذا الأمر، عدم التلازم بين اختصاص قاضي دولة مقر التحكيم، واختصاص القاضي المطلوب منه تنفيذ الحكم( )، إذ إن الحكم سيعرض على محاكم دولة صدوره لغرض إبطاله، في حين قد يطلب تنفيذ الحكم في دولة أو أكثر، وهي تختلف بالتأكيد عن دولة صدور الحكم.
الفقرة الرابعة: احترام النظام العام:
من الثابت في الاتفاقيات الدولية( )، والقوانين الوطنية، أن اصطدام الحكم التحكيمي بالنظام العام في دولة ما يمنع تنفيذه من جهة، ويجعله عرضة للإبطال من جهة أخرى. وذلك لأن النظام العام يلعب دوراً أساسياً، في مختلف الأنظمة القانونية، بكونه أداة دفع يستعين بها القاضي الوطني، ليحول دون تطبيق ما يمس، أو يؤذي الكيان الاجتماعي لدولته بكل مقوماته السياسية والاقتصادية والثقافية والعقائدية والاجتماعية، فداخل كل مجتمع، توجد مجموعة من القواعد والمبادئ والأسس والقيم الجوهرية، التي يقوم عليها المجتمع وتحمي مصالحه الأساسية، وقيمه العليا التي لا يمكن تجاوزها وتفرض احترامها على الجميع( ).
والمشرع العراقي، مثل نظرائه من المشرعين كرس فكرة النظام العام، كسبب من أسباب بطلان، إذ تنص المادة (273/2) من قانون المرافعات المدنية، على أن: "للخصوم عندما يطرح قرار المحكمين على المحكمة المختصة أن يتمسكوا ببطلانه وللمحكمة يجوز من تلقاء نفسها أن تبطله في الأحوال الآتية: إذا خالف القرار قاعدة من قواعد النظام العام والآداب".
وعلى الرغم من الإشارة إلى النظام العام، في كثير من مواد القانون المدني العراقي، فإن المشرع العراقي، لم يجرؤ على تعريف النظام العام لأن النظام العام، فكرة مرنة، وغامضة ونسبية، ووقتية، وهي صعبة التحديد ونطاقها يتسع ليشمل جميع فروع القانون( )، والنظام العام من الغموض بمكان، لدرجة أن بعض الفقه، يصف محاولة تعريفه بأنه: "المغامرة في رمال متحركة، وإرهاق للفكر، أو هو امتطاء لجواد جامح لا نعرف مسبقاً المكان الذي ينقلنا إليه"( ).
وعلى الرغم مما تقدم، نستطيع القول: أن النظام العام هو مجموعة من المبادئ، والمصالح الأساسية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية لدولة القاضي المطلوب منه تنفيذ حكم التحكيم سواء كان وطنياً، أم أجنبياً، أم دولياً، والتي يتعين من اجل حمايتها، وعدم المساس بها، رفض تنفيذ حكم التحكيم عند تعارضه معها( ).
كذلك أوضحت محكمة الاستئناف في بيروت هذه النقطة في الحيثية الآتية:
"حيث إن قواعد تنازع القوانين في لبنان ليست بحد ذاتها متعلقة بالنظام العام؛ وإن مجرد قيام القاضي الأجنبي بتطبيق قانون مختلف عن القانون الناشئ عن النظام اللبناني لا يمس بذاته النظام العام"( ).
يرى العميد بيار غناجه أن النظام اللبناني المتأثر باتجاهات القانون المقارن، يتميز بليبرالية كبيرة( )، ولا يتأثر النظام القانوني مباشرة بتحديد المحكمة المختصة، ما يسمح للقاضي الأجنبي بتطبيق قاعدة التنازع العائدة له، إلا في الحالة التي يؤدي إعمال قاعدة التنازع اللبنانية إلى تطبيق قانون لبناني حصري كقوانين الأمن والسلامة اللبنانية. في هذه الحالة، ترتبط الحالة القانونية بالنظام القانوني اللبناني وبالقرارات الأجنبية المخالفة للاختصاص التشريعي الحصري اللبناني.
وإذا كان صحيحاً ان الطابع الليبرالي للنظام اللبناني يناسب التعاون القضائي مع الخارج، نتساءل، بالمقابل، إذا كان يشكل حماية كافية للأحكام الإلزامية اللبنانية، اإذ تبدو الحماية أكثر الحاحاً في مواد الاحوال الشخصية منها في المواد العقدية حيث يسود مبدأ سلطان الإارادة في لبنان والخارج، على العكس في مواد الاحوال الشخصية، تبدو القوانين الطائفية معرضة للخرق لمصلحة القوانين المدنية الأجنبية. ففي الممارسة العملية كثيراً ما يتم تقديم طلبات أمام المحاكم اللبنانية ترمي إلى الاعتراف بأحكام أجنبية متعلقة بمفاعيل الزواج أو الطلاق بين ازواج لبنانيين أو لبنانيين واجانب، عقدوا زواجهم أمام السلطة الدينية، ما يجعل المحاكم الطائفية مختصة للنظر بنزاعاتهم الزوجية.
حيث يثير الاجتهاد غالباً النظام العام لرفض الاعتراف بالأحكام الأجنبية الصادرة خلافاً للأحكام الالزامية اللبنانية. وقد ذهبت المحكمة الابتدائية المختلطة في بيروت بهذا الاتجاه في قرار قديم لا يزال لغاية الآن محتفظاً بأهميته، فأثارت النظام العام لرفض الصيغة التنفيذية لحكم اميركي قضى بالاستناد إلى القانون الاميركي بالطلاق بين زوجين أحدهما لبناني، تزوجا أمام السلطة الروحية الإنجيلية في بيروت( ).
تتمثل وظيفة النظام العام بتأمين حسن تطبيق الأحكام اللبنانية الالزامية على الإقليم اللبناني. فهو يفسح المجال إذاً أمام القاضي اللبناني الناظر بالصيغة التنفيذية برفض أي قرار صادر خلافاً للأحكام المذكورة. ويختلف دوره في هذه الحالة، عند دوره التقليدي المتمثل بالإشارة إلى التنافر الجوهري الحاصل بين القانون المطبق من القاضي الأجنبي والمفاهيم الاساسية. كما أنه لا يرمي في هذه الحالة، إلى حماية الطابع الإلزامي لقاعدة التنازع اللبنانية بمناسبة الاعتراف بالأحكام الأجنبية( ).
ويتبلور البحث في مفهوم النظام العام، من خلال النظر إليه كفكرة وظيفية تهدف إلى تحقيق غاية معينة، في النظام القانوني( )، وتتجسد تلك الغاية بحماية المصلحة العامة لدولة القاضي المطلوب منه تنفيذ الحكم التحكيمي، من خلال قواعد تتعلق بالمرتكزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدولته، أو تتعلق بالجانب الإجرائي لخصومة التحكيم.





الفصل الثاني
القواعد الأصولية لتنفيذ أحكام التحكيم الدولي

عند تمنع المحكوم ضده، عن تنفيذ حكم التحكيم طوعا، يقوم المحكوم له، بالبحث عن طريقة لتنفيذ منطوق الحكم جبراً، ولتحقيق هذا الغرض، تضع مختلف الدول إجراءات للتنفيذ الجبري على المحكوم عليه من خلال تحريك السلطة العامة وتختلف هذه الإجراءات من دولة لأخرى بحسب مضمون الرقابة التي تفرضها على حكم التحكيم، وعلى الرغم من هذا الاختلاف فان القاعدة الثابتة في القانون الدولي الاتفاقي عند سلوك طريق التنفيذ إن إجراءات تنفيذ أحكام المحكمين تكون وفقا لقانون الدولة التي يراد فيها التنفيذ( ).
وهذا ما كرسته بقوانين خاصة بالتحكيم مستوحاة من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي، بصيغته اتفاقية نيويورك لعام 1958 في المادة (3) منها واتفاقية الرياض لعام 1983 في المادة (31/ب) منها واتفاقية عمان لعام 1987 في المادة (35) منها، وتكون القواعد الإجرائية الواجبة الإتباع لتنفيذ أحكام المحكمين منصوص عليها عادة في صلب قوانين المرافعات الوطنية - كما في قانون المرافعات العراقي المادتان (271) و (272) - أو تكون مكرسة بقوانين خاصة بالتحكيم مستوحاة من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي، بصيغته المعتمدة لعام 2006 كما في قانون التحكيم المصري.
وإذا كان الاختلاف بين إتجاهات التشريعات الوطنية سمة بارزة في هذا الخصوص إلا إننا نرصد التوجه الداخلي، في كثير من الدول نحو تسهيل إجراءات تنفيذ أحكام التحكيم. ولكن هذا التسهيل، لا يستبعد الدور الرقابي للقضاء الوطني على أحكام التحكيم بكونها قضاء خاصاً يراد حمل المحكوم ضده على قبولها قهراً، ويكون ذلك من خلال التصدي لحكم التحكيم من قبل القاضي الوطني المعروض عليه الحكم ليأمر بتنفيذه للتأكد من خلوه مما يمنع تنفيذه أو التثبت من الشروط التي أوجب المشرع توافرها في الحكم، إذ أن الأمر بالتنفيذ، هو الوسيلة التي تتبعها الكثير من الدول من اجل تنفيذ حكم التحكيم، لتناسبه مع القيمة التي تعطيها الدول لأحكام التحكيم من حيث الاعتراف بمبدأ حجية الأمر المقضي الذي تمنحه التشريعات للحكم، وعلى العكس من ذلك، تأخذ بعض الدول بأسلوب الدعوى عند طلب تنفيذ حكم التحكيم، ومنها العراق ولكل من النظامين مزاياه، وتبعاته الذي يقيم، حسب نوع المعاملة، التي يفرضها على حكم التحكيم.
والأمر بالتنفيذ، ليس أول وآخر الإجراءات المفروضة على التنفيذ الجبري لأحكام التحكيم، بل توجب التشريعات إجراءات تسبق استصدار أمر التنفيذ، فقانون المرافعات العراقي، والمرسوم الفرنسي رقم (48) لعام 2011 حول تعديل النصوص المتعلقة بالتحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية وقانون التحكيم المصري، وقانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني، تتفق على وجوب إيداع حكم التحكيم للمحكمة المختصة بالتنفيذ، قبل الأمر بتنفيذه، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتوجب من بعد إيداع حكم التحكيم تقديم طلب بتنفيذه إلى القاضي المختص، لان تنفيذ حكم التحكيم ليس واجبا على القضاء، بل هو حق للمحكوم له.
لذلك، وبناءً عليه، سنقسم هذا الفصل إلى مبحثين، سنتطرق في المبحث الأول لدراسة الإجراءات التي تسبق إصدار أمر التفيذ، أما المبحث الثاني سنتطرق فيه لدراسة إصدار أمر بتنفيذ حكم المحكمين.




المبحث الأول
الإجراءات السابقة لإصدار أمر التنفيذ
حكم التحكيم الأجنبي هو قرار صادر عن لجنة تحكيم دولية ويتعلق بنزاع قانوني بين الأطراف من جنسيات مختلفة. لتحقيق تنفيذ هذا الحكم في دولة أخرى، تتطلب العملية إجراءات محددة. سنلقي نظرة على الإجراءات الرئيسية لإيداع حكم التحكيم الأجنبي وتقديم طلب تنفيذه:
حيث أن أول خطوة يجب أن تتخذها هي إيداع الحكم في محكمة الاختصاص في الدولة التي ترغب في تنفيذ الحكم بها. يجب أن يتم هذا الإيداع وفقًا للقوانين والإجراءات المحلية.
بعد إيداع الحكم، يجب تقديم طلب رسمي لتنفيذ الحكم إلى المحكمة المختصة. يتعين على الطالب تقديم نسخة معتمدة من الحكم وجميع الوثائق الداعمة للمحكمة.
المحكمة ستقوم بالتحقق من صحة الحكم ومدى مطابقته للقوانين والإجراءات المحلية. إذا كان هناك أي مشكلات في الحكم، قد تطلب المحكمة إجراءات إضافية أو التواصل مع لجنة التحكيم الدولية.
يتوجب على المحكمة تبليغ الأطراف المعنية بالطلب ومنحهم الفرصة للرد على الطلب إذا كانوا يعترضون على تنفيذ الحكم.
بعد استكمال الإجراءات السابقة، ستقوم المحكمة بالبت في الطلب واتخاذ القرار بشأن تنفيذ الحكم أو رفضه. إذا تمت الموافقة على الطلب، سيتم تنفيذ الحكم وفقًا للقانون المحلي.
إذا تمت الموافقة على تنفيذ الحكم، ستقوم السلطات المحلية بتنفيذ القرار وفقاً للقوانين والإجراءات المحلية. قد تشمل هذه العملية مصادرة الأموال أو تنفيذ أوامر قضائية.
ويضع قانون المرافعات العراقي في المادة 271 والمادة 272 إجراءات مشابهة لتنفيذ أحكام المحكمين تسبق صدور الأمر بتنفيذها.
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المبحث إلى مطلبين، سنتطرق في المطلب الأول لدراسة إيداع حكم المحكمين، أما المطلب الثاني فسنتطرق فيه لدراسة طلب تنفيذ حكم المحكمين. 
المطلب الأول
إيداع حكم المحكمين
تتطلب الأنظمة القانونية، إيداع حكم التحكيم جهة محددة بعد إصداره من قبل المحكمين، وقبل تنفيذه من قبل القضاء، كإجراء أولي تمهيداً لتصديقه، أو الأمر بتنفيذه، من ذلك، ما تنص عليه المادة (271) من قانون المرافعات العراقي: "بعد أن يصدر المحكمون قرارهم على الوجه المتقدم يجب عليهم إعطاء صورة منه لكل من الطرفين وتسليم القرار مع أصل اتفاق التحكيم إلى المحكمة المختصة بالنزاع خلال الثلاثة أيام التالية لصدوره وذلك بوصل يوقع عليه كاتب المحكمة".
وتنص المادة (32/7) من قواعد الأونسيترال للتحكيم بصيغتها المعتمدة لعام 1976 على أنه: "إذا كان قانون التحكيم في الدولة التي صدر فيها قرار التحكيم يستلزم إيداع القرار أو تسجيله، وجب أن تنفذ هيئة التحكيم هذا الالتزام خلال المدة الذي يحددها القانون"( ).
وتنص المادة (1487/3) من المرسوم الفرنسي رقم (48) لسنة 2011 حول تعديل النصوص المتعلقة بالتحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية على أن: "يودع الطرف الأكثر عجلة طلب التنفيذ لدى قلم المحكمة النظامية ويرفق به أصل القرار التحكيمي ونسخة عن اتفاق التحكيم أو صورة عنهما تستجمع الشروط الضرورية لتبيان صحتهما".
وتنص المادة (793) من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني على أنه: "يجب لغرض إعطاء الصيغة التنفيذية للقرار التحكيمي إيداع أصل هذا القرار قلم الغرفة الابتدائية المشار إليها في المادة (770/2) سواء من قبل أحد المحكمين أو الخصم الأكثر عجلة وترفق بأصل القرار المذكور صورة عن اتفاقية التحكيم مصدقاً عليها بمطابقتها لأصلها من قبل المحكمين أو سلطة رسمية مختصة أو رئيس القلم، وبعد إطلاعه على هذا الأصل".
وتتجلى أهمية إيداع أحكام المحكمين لدى الجهات المختصة في نصوص القوانين المتقدمة بكونها عملية تسبق صدور الأمر القضائي بتنفيذها، وعلى ذلك الأساس سوف نقسم هذا المطلب إلى فرعين، سنتطرق في الفرع الأول لدراسة الهدف من الإيداع، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لدراسة أثر عدم الإيداع.
الفرع الأول
الهدف من الإيداع
بالرغم من ضرورة الإيداع، نجد أن الفقه، لم يتوحد رأيه على غاية المشرع من فرضه، فيرى البعض( )، بأن للإيداع دلالة على استنفاذ المحكم لولايته في النزاع المعروض عليه، لأن هذا الإيداع يقطع بصدور الحكم بالحالة التي أودع فيها، ومن ثم يرفع يد المحكم عن النزاع.
إلا أن الاتجاه المتقدم يتناقض مع ما نراه من الوقت الذي يعتبر فيه حكم التحكيم صادراً مرتباً لآثاره، فهو يقرر بأن الحكم قد صدر ويعتد به من تاريخ التوقيع عليه ولا يلزم النطق به، أو إيداعه( ). وهو من جهة أخرى، يعطي فكرة الاستنفاذ مدلولاً مادياً، يُسمح للمحكم من خلاله بتعديل حكمه بعد صدوره وإلى حين إيداعه وهو ما يمسح فكرة الاستنفاذ ذاتها( ).
ومن جانب آخر، فإن المشرع قد أعطى حكم المحكمين حجية الأمر المقضي أو حجية القضية المحكوم بها بحسب تعبير القانون اللبناني( )، ومن ثم فإن استفاد ولاية المحكم يبدأ منذ اللحظة التي يصدر بها حكم التحكيم( ).
وعلى الرغم من ذلك من الممكن القول أن الرأي المتقدم قد يتناسب، وموقف المشرع العرقي الذي لا يعطي لأحكام المحكمين أي حجية ملزمة، ويتجلى ذلك من خلال إعطاء المشرع العراقي للمحكمة، المعروض عليها حكم التحكيم، حق إبطاله كليا أو جزئياً من تلقاء نفسها عند توافر حالات معينة، وحق الفصل في النزاع الذي حسمه حكم التحكيم إن كان للفصل فيه مقتضى( ).
كما أن المشرع العراقي لم يفصح عن اللحظة التي يعتبر فيها حكم التحكيم، قد صدر مرتباً لآثاره( ). ومن ثم يمكن القول أن المشرع يوجب إيداع حكم التحكيم على المحكمين خلال مدة، تتحدد بثلاثة أيام من تاريخ صدور الحكم، دلالة على استنفاد ولاية المحكم.
لذلك يكون من الضروري تدخل المشرع العراقي ليبين اللحظة التي يعتبر فيها الحكم الصادر حاسماً للنزاع، ومرتباً لآثاره كما فعل نظيره الفرنسي في المادة (1485) من المرسوم الفرنسي رقم (48) لسنة 2011 حول تعديل النصوص المتعلقة بالتحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية.
وفي رأي آخر يرى جانب من الفقه( )، أن إيداع أحكام التحكيم لا فائدة لها سوى التوثيق، حيث يتم إطلاع الخصوم على محتوى القرار، وإحتفاظ كل منهم بصورة عنه.
إلا أن هذا الرأي، لا يمكن التسليم به إلا في حالة ما إذا كان تنفيذ حكم التحكيم يجري طواعية وودياً، الأمر الذي يجنب اللجوء إلى إجراءات التنفيذ الجبري، وأولها الإيداع ( ).
ويرى البعض( )، وبحق، إن إيداع حكم المحكمين هو إجراء ضروري لوضع يد الأطراف عليه وجعله تحت تصرفهم والإطلاع على منطوقه ليقوم المحكوم له بطلب الأمر بتنفيذه، ويقوم المحكوم ضده بالطعن عليه، وهو بذلك إجراء يؤدي إلى الإسراع في تنفيذ الحكم.
ومن جانب آخر، فإن إيداع الحكم كإجراء لازم، للحصول على أمر بتنفيذه مقصود منه أن يكون الحكم تحت بصر قضاء الدولة وتمكينه من فرض ولايته في شقها الرقابي عليه للتأكد من خلوه من موانع تنفيذه( ).
فالقاضي يتمكن من خلال إبداع حكم المحكمين التأكد من خلوه مما يحول دون تنفيذه قبل أن يصدر أمراً بذلك، وكذلك تمكين المحكمة المختصة من ممارسة رقابتها على الحكم عند الطعن بالبطلان عليه.
أما عن إجراءات إيداع الأحكام، فإن المستندات الواجب إيداعها هي قرار التحكيم مع أصل اتفاق التحكيم، وذلك بعد، أن يقوم المحكمون بتسليم صورة من القرار لكل طرف من أطراف التحكيم. ويلاحظ أن المشرع العراقي، لم يحدد ما إذا كان الواجب إيداع أصل حكم التحكيم، أم صورة منه من جهة، ومن جهة أخرى، يتوجب إيداع أصل إتفاق التحكيم مع القرار.
كما أن قرار التحكيم الواجب إيداعه حسب المادة (271) من قانون المرافعات العراقي ذو معنى واسع، ذلك لأن هيئة التحكيم قد تصدر عدة قرارات تحكيمية تمهيدية، أو جزئية فهل ينصرف مفهوم قرار التحكيم لكل القرارات التي يصدرها المحكمون؟
وفي القانون اللبناني، يشترط لغرض إعطاء الصيغة التنفيذية، إيداع أصل القرار التحكيمي مع صورة من اتفاق التحكيم مصدق عليها من قبل المحكمين، أو من قبل سلطة مختصة( ). أما إذا كان التحكيم حاصلاً خارج ،لبنان، فيصح تقديم صورة، مطابقة للأصل عن القرار التحكيمي لأجل الإيداع( ) غير أنه من الممكن إيداع اتفاق التحكيم بدمجه مع أصل قرار التحكيم، وذلك بإدراج نص بند التحكيم مع القرار بعد استخراجه من العقد الأساسي، شريطة التوقيع عليه من قبل المحكم، أو من رئيس قلم المحكمة المختصة، أو من الكاتب العدل، وتبيان أنه مطابق للأصل( ).
وفي القانون الفرنسي، كان موقف المشرع في نصوص التحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية لعام 1981 مشابها لموقف المشرع اللبناني، حيث كانت المادة (1477) من قانون أصول المحاكمات المدنية الفرنسي تنص على أن لهذه الغاية - أي تنفيذ حكم التحكيم -
يودع أحد المحكمين أو الطرف الأكثر عجلة أصل الحكم التحكيمي مرفقاً بصورة من العقد التحكيمي قلم المحكمة. إلا أن نهج المشرع الفرنسي، قد تغير حينما صدر مرسوم رقم (48) لعام 2011 حول تعديل النصوص المتعلقة بالتحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية، فلم يعد إيداع أصل الحكم التحكيمي، أو أصل اتفاق التحكيم شرطاً ضرورياً، وإنما يكفي تقديم صورة عنهما تستجمع الشروط الضرورية لبيان صحتها( ).
ويعلل جانب من الفقه الفرنسي( )، كفاية إيداع صورة عن الحكم التحكيمي، وصورة عن اتفاق التحكيم بأنها خطوة، سوف تؤدي إلى تسهيل تنفيذ أحكام المحكمين من جهة والتخلص من إزهاق أقلام المحاكم بمهمة الاحتفاظ بأصل القرارات التحكيمية، الأمر الذي يؤدي إلى عرقلة تداول القرار التحكيمي من ناحية، وإلى عبء مالي ضخم على الدولة في حال ضياع الأصل، من ناحية أخرى.
ويذهب البعض( )، إلى أنه من المستحسن شمول الإيداع للمستند الذي رفع بموجبه النزاع إلى المحكم والمحاضر المحررة من المحكم، واللوائح المتبادلة، والأشعار الصادرة عن المحكم بوضع القضية قيد التدقيق، وسائر المستندات التي تبدو مفيدة لاستعادة المحاكمة التحكيمية بكامل تفاصيلها.
إلا أن هذا التوجه، يتناقض مع مبدأ الرقابة الخارجية، التي يجريها القاضي على الحكم التحكيمي عند إيداعه من جهة، ومن جهة أخرى فإن التوسع في إيداع المستندات، السالفة الذكر، يطيح بميزة أساسية من مزايا التحكيم وهي سرية خصومة التحكيم، وما ينتج عنها من ادعاءات، ومن طلبات ودفوع( ).
ومما تقدم من تخفيف الشكليات في القانون الفرنسي، يحدو بناء إلى دعوة المشرع العراقي للأخذ بمبدأ التخفيف، ليتناسب التحكيم في العراق مع واقع التجارة الدولية، إذ إن إقدام الدُّولة العراقية على الاستثمارات الهائلة، في جميع الميادين، يستوجب توفير مناخ إجرائي إقتصادي بعيد عن التعقيد.
أما الجهة المكلفة بالإيداع، فقد حدد المشرع العراقي، الجهة التي يتوجب عليها الإيداع وهي (المحكمون). إذ يتوجب على المحكمين بعد إصدار القرار متضمناً للبيانات التي أوجبها المشرع، وتوقيعهم عليه وإعطاء صورة منه لكل من الطرفين، إيداع القرار إلى المحكمة المختصة( ).
ويعد هذا التوجه منسجماً مع موقف قواعد الأونسيترال للتحكيم، بصيغتها المعتمدة لعام 1976، التي أوجبت على الهيئة التحكيمية، القيام بالإيداع، أو التسجيل مقتضى الإجراء القانوني للبلد المراد تنفيذ الحكم فيه( ).
وقد خير كل من القانون الفرنسي( )، والقانون اللبناني( )، الطرف الأكثر عجلة في تنفيذ الحكم، أو أحد المحكمين، بإيداع الحكم التحكيمي.
ويعتبر توجه المشرع الفرنسي، ونظيره اللبناني، هو الأرجح بنظرنا، ذلك لأن، ترك أداء الإبداع على المحكم، أو على هيئة التحكيم، لا يحل مشكلة امتناعها عن الإيداع لإنفرادها بحيازة أصل الحكم، الأمر الذي يتطلب اللجوء إلى القضاء لإجبارها على الإيداع.
كما أن المشرع بإتاحته، لمن صدر للحكم لصالحه بإيداع حكم التحكيم، يراعي بذلك مصلحته، فهو سيسارع في إيداعه من أجل الحصول على أمر بتنفيذه( ). وأياً كانت الجهة المكلفة بإيداع الحكم، قد تثار مشكلة تذرع الطرف المحكوم ضده، بعدم إعلانه، أو إخباره بعملية إيداع الحكم، ليحول دون التنفيذ بمعنى آخر إن المشرع حين أوجب الإيداع على المحكمين، أو على المحكوم لصالحه، لم يوجب عليهم إعلان الطرف المحكوم ضده، بعملية الإيداع، فهل يؤدي عدم إعلان هذا الأخير بالإيداع إلى بطلان إيداع حكم التحكيم كإجراء أولي للتنفيذ؟. إن المشكلة المطروحة تزداد تعقيداً، عندما لا يكون المحكوم ضده، معلناً بالحكم، أو لم يتسلم نسخة من الحكم عند صدوره، وعلى الرغم من صعوبة حصول هذين الفرضين، إلا أن محكمة استئناف طرابلس الليبية، ذهبت إلى أن عدم إخبار قلم كتاب المحكمة المختصة، الطرف المحكوم ضده بعملية إيداع حكم التحكيم لا يترتب عليه بطلان الحكم، لأن ذلك إجراء لاحق، تترتب عليه مواعيد الطعن( ).
وقياساً على ذلك، نرى أن عدم إعلان المحكوم ضده بعملية الإيداع لا علاقة له بمبدأ المواجهة، أو حق الدفاع، إذا ما أريد تنفيذ الحكم، واحتج المحكوم ضده بعدم علمه بالحكم، واعتقاده بضرورة علمه بعملية الإيداع، ويترتب على ذلك، صحة إجراء ايداع حكم التحكيم ولو لم يعلم به المحكوم عليه.
والإيداع المفروض على أحكام المحكمين من قبل المشرع العراقي، يجد نطاقه في قلم كتاب المحكمة المختصة بالنظر في النزاع( )، وهي ذاتها المحكمة التي يطلب منها، تنفيذ الحكم التحكيمي( ).
أما في فرنسا، فإن إيداع حكم التحكيم ، يكون في قلم المحكمة الابتدائية التي صدر القرار التحكيمي في نطاقها( ). وعندما يكون الحكم صادراً في الخارج فإن الاختصاص في الإيداع ينصرف إلى المحكمة الابتدائية في باريس( ).
وبالنسبة للبنان، فيجب إيداع حكم المحكمين في قلم الغرفة الابتدائية الكائن في منطقتها مركز التحكيم إذا كان التحكيم قد تم في لبنان( ). أما إذا كان التحكيم حاصلاً خارج لبنان، فيتم إيداع الحكم، في قلم الغرفة الابتدائية في بيروت( ). وهو موقف مشابه لموقف لمشرع الفرنسي السالف الذكر.
إن تحديد المشرع للجهة المختصة بالإيداع، يجعلنا نطرح التساؤل الآتي: ما الحكم إذا ما تم الإيداع في قلم كتاب محكمة أخرى غير المحكمة المختصة؟
لم يبين المشرع حكم الإيداع الخاطئ في قلم كتاب المحكمة غير المختصة، وفي هذا الصدد، يذهب جانب كبير من الفقه، إلى أن إيداع حكم التحكيم، لدى قلم محكمة غير مختصة، يمنع القاضي المختص بهذه المحكمة من إصدار الأمر بتنفيذه، لعدم امتلاكه سلطة الأمر بالتنفيذ، تبعاً لانعدام الاختصاص، هذا من جهة، ومن جهة اخرى، أن الإيداع الخاطئ لا يؤدي إلى بطلان الحكم، أو النيل من صحته، ذلك لأن هذه الحالة لم يوردها المشرع كواحدة من حالات البطلان، ويثبت الإيداع بوصل، يوقع عليه كاتب المحكمة المختصة( ).
الفرع الثاني
أثر عدم الإيداع
إن واجب إيداع أحكام التحكيم، الملقى على عاتق المحكمين، يتحدد بمدة، رسمها المشرع العراقي، وهي ثلاثة أيام تلي صدور الحكم( )، وعندئذ تحدد المحكمة موعداً للجلسة، يبلغ بها الطرفان للنظر في قرار التحكيم بالتصديق عليه، أو إبطاله، كله، أو بعضه( ).وهي مدة لا تتناسب مع تنفيذ أحكام التحكيم، الصادرة خارج العراق، إذ قد يتأخر طالب التنفيذ، بالتوجه إلى المحاكم العراقية، من أجل إيداع الحكم لعدة أسباب.
ويلاحظ أن القانون الفرنسي، قد خلا من النص على مدة، يتوجب فيها الإيداع، وعلى أثره، سار قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني.
إن تحديد المشرع العراقي مدة الثلاثة أيام لإيداع حكم التحكيم بعد صدوره، يحدو بنا إلى التساؤل الآتي: ما هو الأثر القانوني إذا لم يقم المحكمون بالإيداع؟، بعبارة أخرى، هل أن مدة إيداع أحكام المحكمين من النظام العام؟ وتبرز أهمية هذا التساؤل عند معرفة أن قانون المرافعات العراقي، لم ينص على جزاء معين، يترتب على عدم الإيداع ويرتب جانب من الفقه( )، على عدم الإيداع عدة نتائج، تتمثل بإلقاء المسؤولية على المحكمين، إذا لم يقوموا بإيداع الحكم التحكيمي، خلال المدة التي حددها المشرع، وهي الثلاثة أيام، حيث يفرض عليهم التعويض لصالح الخصوم، جراء الأضرار الناتجة عن التأخر في الإيداع، أو عدمه ويفضل البعض( ) الالتجاء إلى القضاء لإجبارهم على الإيداع عن طريق الحكم بالغرامة التهديدية.
ومن جهة أخرى، يبقى حكم التحكيم محتفظاً بصحته، ولا يمكن النيل منه، عند عدم الإيداع فإيداع حكم التحكيم، هو إجراء لاحق لا يتوقف عليه صحة الحكم من جهة، وموعد إيداعه " تنظيمي"، لا يترتب على مخالفته البطلان من جهة أخرى( )، وتطبيقاً لذلك، قضي بان عدم تزامن إيداع حكم التحكيم، مع طلب الصيغة التنفيذية، ليس من شانه، أن يعيب قرار الصيغة التنفيذية( ). إلا أن النتيجة الوحيدة، التي تترتب على عدم الإيداع، هي عدم القدرة على استصدار الأمر بتنفيذ الحكم، وذلك للإخلال بإجراء أوجبه المشرع.


المطلب الثاني
طلب تنفيذ حكم المحكمين
نظراً لصدور حكم التحكيم من اشخاص عاديين، لا يحوزون سلطة الجبر، المقصورة على قضاء الدولة، فأن إمكانية تنفيذه جبراً تتطلب حصوله على القوة التنفيذية، عن طريق الحصول على أمر بتنفيذه من قضاء الدولة، فيتم اللجوء الى القاضي المختص بأصدار الأمر بالتنفيذ، بعريضة من طرف واحد، أو بدعوى حسب متطلبات النظام القانوني، للدولة المطلوب منها التنفيذ، يقدمها اي من ذوي الشأن يطلب فيها، إصدار أمر بإعطاء حكم المحكمين قوة التنفيذ، فلا يصدر القاضي الأمر من تلقاء نفسه.
وبناءً على ذلك سنقسم هذا المطلب إلى فرعين، سنتطرق في الفرع الأول لدراسة أهمية طلب التنفيذ، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لدراسة إجراءات طلب التنفيذ.
الفرع الأول
أهمية طلب التنفيذ
إن مجرد إيداع حكم التحكيم، لا يعطيه القوة التنفيذية، وإنما يجب كي يمكن تنفيذه جبراً، إستصدار أمر بتنفيذه، بناءً على طلب يقدمه الطرف المحكوم لصالحه، إلى المحكمة المختصة( ). ذلك لأن حكم التحكيم يولد، فاقداً للقوة التنفيذية وأن الذي يمنحه هذه القوة، هو القاضي المختص، بناءً على أمر منه، في طلب يسمى طلب تنفيذ حكم المحكم( ).
ويعرف طلب التنفيذ بأنه: "طلب يتقدم به الطرف المحكوم له، مستهدفاً من خلاله منح قرار التحكيم قوة النفاذ حال تمنع المدين - المحكوم عليه من أداء ما قضى به حكم التحكيم"( ).
وهو بهذه المثابة إجراء كرسته النظم القانونية التحكيمية الدولية والوطنية، فعلى الصعيد الدولي نصت إتفاقية نيويورك لعام 1958 في مادتها (4/1) على أن: "للحصول على الاعتراف والتنفيذ المذكورين في المادة السابقة، يقوم الطرف الذي يطلب الاعتراف والتنفيذ وقت الطلب تقديم مايلي -:- أ- القرار الاصلي مصدقا عليه حسب الأصول أو نسخة منه معتمدة - ب- الاتفاق الأصلي المشار إليه في المادة الثانية أو صورة منه معتمدة حسب الأصول".
كما نصت المادة (3/1) من نفس الاتفاقية على أن كل دولة متعاقدة أن تعترف بقرارات التحكيم كقرارات ملزمة وأن تقوم بتنفيذها وفقاً للقواعد الإجرائية المتبعة في الإقليم الذي يحتج فيه بالقرار، طبقاً للشروط الواردة في المواد التالية ( ).
وبناء على النصوص المتقدمة، يتبين أن الاتفاقية كرست طلب تنفيذ حكم التحكيم، كمنهج إجرائي أولي للحصول على أمر بتنفيذه. إلا أنها لم توضح آلية تقديم الطلب، تاركة ذلك الأمر، إلى القانون الإجرائي لكل دولة مطلوب منها تنفيذ حكم التحكيم.
حسب المادة (793) وما بعدها من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني، فإن حكم التحكيم لا يكون قابلاً للتنفيذ إلا بعد إكسائه الصيغة التنفيذية( ). ولهذا الغرض، وبناءً على طلب من أحد طرفي الخصومة، يصدر رئيس المحكمة أمراً بتنفيذ الحكم بعد اطلاعه عليه وعلى اتفاقية التحكيم، ويتضح من المادة (796) بأن الأمر بالتنفيذ يتم بأمر على عريضة من رئيس المحكمة( )، ويوضع هذا الأمر على نسختين من حكم التحكيم أحدهما يبقى في ملفات المحكمة، والثاني يسلم للطرف الذي تقدم بطلب التنفيذ وذلك لمتابعة التنفيذ. وبإكساء الحكم الصيغة التنفيذية على هذا النحو لا يعني أن الحكم أصبح قابلاً للتنفيذ الفوري ما لم يكن الحكم معجل النفاذ.
إن الطبيعة القانونية لقرار الصيغة التنفيذية كانت محل خلاف في ظل التشريع اللبناني إلا أن الرأي الغالب في الفقه، والقضاء ذهب إلى اعتبار قرار الصيغة التنفيذية من طائفة الأوامر على العرائض كما اعتبر أن القرار التحكيمي الذي يرفض الصيغة التنفيذية يكون قابلاً للاستئناف، أما القرار الذي يمنح الصيغة التنفيذية فيكون قابلاً للطعن فيه من الشخص المتضرر منه بطريق الاعتراض عليـــه أمــام القاضي الذي أصدره، لأجل الرجوع عنه، ولكنه لا يقبل الاستئناف مباشرة على أن القرار الصادر فــي الاعتراض يكون قابلاً للاستئناف، بوصفه قرار قضائي لا رجائي( ).
ويبدو أن المشترع اللبناني سار على النهج الذي سار به المشترع الفرنسي، والمصري بشأن إجراءات استصدار أمــر التنفيذ، فالقرار يصدر بناءً على طلب يقدم بإجراءات استصدار الأمر على العريضة وليست الإجراءات العادية للدعوى القضائية وإلا حكم بعدم القبول لرفعه بغير الطرق التي رسمها القانون لاستصدار الأمر بتنفيذ قرار التحكيم( ).
يصدر القاضــي المختص الأمر بالتنفيذ بما له من سلطة ولائية دون اتباع إجراءات الخصومة، والعمل الــولائي يندرج في الأعمال التي يقدمهــا قضاء الدولة للحياة القانونية، وتهدف الأعمال الولائية إلى إزالة عوارض النظام القانوني الناتجة عــن القصور القانوني، فقد توجد قاعدة قانونية تنظم علاقات قانونية معينــة، ولكن هذه القاعدة تظل بلا فاعلية نظراً للمركز القانوني الذي يوجد فيه الشخص الذي يرغب في أن يكون طرفاً في العلاقة التي تنظمها القاعدة، وحتى تحقق القاعدة القانونية فاعليتها في هذه الحالــة فلا بدّ وأن يقدّم القاضي بماله من سلطة ولائية الحماية اللازمة للشخص الذي وجد في المركز القانوني الولائي( ).
ويرى جانب من الفقه( ) أن اصدار القاضي أمراً بالتنفيــذ هو اجراء شكلي لا يتضمن الفصل في النزاع، وهذا ما يؤكده القانون والفقه والقضاء لأن الأمر على عريضــة لا يأخذ طابع الخصومة، وأنه يصدر في غياب الطرف الآخر دون أن يكون فيه قضاء أبداً. إن القاضي يمارس هذه المهمة بوصفة ممثلاً للسلطة العمومية للدولة وليس كجهة قضائية مختــصة لحل النزاع أياً كان نوعه، ولهذا فلا يعدو أن يكون أمر التنفيذ إلا مجرد إجراءاً شكلياً.
كما ذهب بعض الفقه( ) إلى القــول أن الأمر الصادر بمنح القوة التنفيذية لقرار التحكيم لا يعد عملاً قضائياً لأنه لا يفصل في خصومة. كما أنه لا يعد في نفس الوقت استمراراً لعملية التحكيم التي انتهت بإصــدار القرار المراد شموله بالقوة التنفيذية، وإنما يكون بصدد عمل ولائي يقتصر على منح الأمر بالتنفــيذ بعد التحقق من توافر الشروط اللازمة لإسبــاغه بغيــة رفعــه إلى مصاف السندات التنفيذيــة.
أمــا في التشريــع العــراقي فقد نصت المادة (272/1) من قانون المرافعات العراقي، على أن: "لا ينفذ قرار المحكمين لدى دوائر التنفيذ سواء كان تعيينهم قضاء أو اتفاقاً ما لم تصادق عليه المحكمة المختصة بالنزاع بناء على طلب أحد الطرفين وبعد دفع الرسوم المقررة".
ومن النص المتقدم، يتبين أن طلب تنفيذ حكم المحكمين هو حق أو مكنة للطرفين اللذين صدر بشأنهما قرار التحكيم، وبدون الطلب، لا تستطيع المحكمة المختصة الأمر بتنفيذ حكم التحكيم، وذلك عملاً بمبدأ حياد القاضي، ومبدأ المطالبة القضائية( ).
يلاحظ أن المشرع العراقي، لم يحصر طلب تنفيذ أحكام المحكمين بشخص معين وإنما أعطى هذا الحق لطرفي اتفاق التحكيم، على حد السواء، المحكوم لصالحه، أو المحكوم ضده وهو مسلك كل من القانون الفرنسي، واللبناني. حيث ترك القانون الفرنسي حق طلب تنفيذ الحكم للطرف الأكثر عجلة( ).
أما عن الإختصاص بطلب تنفيذ الحكم، فيراعى أن يقدم الطلب إلى المحكمة المختصة، وهي طبقاً للقانون العراقي المحكمة المختصة بنظر النزاع أصلاً( ). وهي محكمة البداءة المطلوب التنفيذ في دائرتها. ويلاحظ أن المشرع العراقي، لم يفرق بين حكم التحكيم الأجنبي، والدولي، والوطني، بالنسبة للاختصاص، وذلك على العكس من المشرع الفرنسي، فوفقاً لهذا الأخير، يتم تقديم طلب تنفيذ حكم التحكيم في فرنسا الى المحكمة الابتدائية التي صدر الحكم في نطاقها، وإذا كان الحكم صادراً خارج فرنسا ، فإن الطلب يقدم إلى المحكمة الابتدائية في باريس( )، ويعلل جانب من الفقه الفرنسي، تخصيص المحكمة الابتدائية في باريس، لتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية، أو الدولية، برغبة المشرع الفرنسي في أن يكون الاجتهاد في التحكيم الدولي، موحداً ومترابطاً وذلك لصون الجاذبية التي تمثلها مكانة باريس في مجال التحكيم الدولي( ).
وقد شايع المشرع اللبناني موقف نظيره الفرنسي حينما تطلب تقديم طلب التنفيذ إلى رئيس الغرفة الابتدائية التي أودع أصل القرار التحكيمي في قلمه( ).
وبهذه الدلالة، فإن المشرع اللبناني فرق بين ما إذا كان حكم التحكيم صادرا في داخل لبنان، أو خارجه( ). وبالحالة الأولى يتم تقديم طلب التنفيذ إلى رئيس الغرفة الابتدائية، الكائن في منطقتها مركز التحكيم المتفق عليه، وبالحال الثانية يتم تقديم طلب التنفيذ إلى رئيس الغرفة الابتدائية في بيروت. وهو اختصاص نوعي يترتب على مخالفته بطلان قرار الصيغة التنفيذية التي يكسبها القاضي للحكم التحكيمي( ).
الفرع الثاني
إجراءات طلب التنفيذ
إن الطلب الواجب تقديمه لتنفيذ حكم المحكمين لدى المحاكم العراقية، لم تبين المادة (272/1) طبيعته، وبالرجوع للمادة (264) من قانون المرافعات العراقي، والتي تنص على أن: "إذا قدم طلب إلى المحكمة المختصة بنظر النزاع بتعيين محكمين فلا يتناول هذا الطلب بذاته التصديق على قرارهم أو الحكم بما تضمنه هذا القرار إلا إذا صرح بذلك في العريضة وعندئذٍ تعين المحكمة المحكمين وتقرر اعتبار الدعوى مستأخرة إلى أن يصدر قرار التحكيم" ، نجد أن المشرع العراقي، اعتبر طلب تعيين المحكمين، وتصديق قرار التحكيم معاً، دعوى مستأخرة لحين صدور القرار.
مما يعني أن المقصود من طلب تصديق، أو تنفيذ حكم المحكمين الوارد في المادة (272/1) الإجراءات المعتادة، لرفع الدعوى القضائية( )، ويترتب على ذلك، حين يتم تقديم طلب تصديق الحكم، أن تحدد المحكمة موعداً للمرافعة، وتبلغ به الخصوم، للنظر في قرار المحكمين، وكذلك في اتفاق التحكيم، وتسمح للخصوم بتبادل اللوائح، وتقديم الأدلة ومراعاة المواعيد والمدد القانونية التي يشترطها القانون للدعاوى( ). وتصدر المحكمة المختصة حكمها بالتصديق، أو الإبطال حضورياً( )، وهو نظام يسميه البعض( )، بإجراء الصيغة التنفيذية الوجاهية.
إن إجراء طلب تنفيذ حكم التحكيم، وفق الأوضاع المعتادة، لرفع الدعوى لا نراه أمراً يتناسب وطبيعة التحكيم ذلك إن المشرع العراقي، سمح بالطعن بقرار المحكمة المطلوب منها تنفيذ حكم التحكيم، الذي يأمر بالتنفيذ أو برفضه بكافة طرق الطعن ما عدا الاعتراض على الغير( )، وهو أمر يؤدي إلى تأخير التنفيذ، ومصادرة ميزة مهمة من ميزات التحكيم وهي الاقتصاد في الإجراءات، بما ينطوي عليه من اختصار للوقت والنفقات.
لذا ندعو المشرع العراقي للعدول عن نظام الدعوى في طلب التنفيذ، وتبني إجراء "الأمر على عريضة" لتشجيع تنفيذ أحكام التحكيم، فطريق الأمر على عريضة يعبر عن الطابع الودي للتحكيم، ولا يعطي الطرف المتعنت الفرصة للمماطلة، فطريق الدعوى المبتدأة لتدخل القضاء في شؤون التحكيم، وخصوصاً عند طلب تنفيذ الحكم يؤدي إلى إهدار اتفاق للتحكيم وإفراغه من مضمونه، بل يصيب نظام التحكيم في مقتل هذه النتائج البالغة الخطورة لم يقصدها المشرع، بل قصد سلوك طريق آخر، طريق میسر فعال تفرضه المعطيات الأولية للتحكيم كنظام قانوني مختلف عن النظام القضائي، هذا الطريق الميسر هو طريق الأمر على عريضة الذي يساير الطبيعة الخاصة للتحكيم ويستجيب لها، هذه الطبيعة المميزة للتحكيم هي التي تحدد مضمون القواعد القانونية الحاكمة له وترسم حدودها الموضوعية، وكذلك حدودها الغائية أي الحدود المستمدة من الغاية التي يفرضها التحكيم كنظام قانوني يستهدف أول ما يستهدف حل نزاع معين بعيداً عن محاكم الدولة، فيجب أن لا يغيب عن البال أن اتفاق التحكيم مبعثه رغبة أطرافه في البعد عن قضاء الدولة، وقواعده الجامدة وضماناته القضائية الشكلية أملاً في تحقيق عدالة سريعة مرنة.
أما من حيث المدة، يلاحظ أن المشرع العراقي لم يحدد صيغة، أو بيانات معينة يشترط إدراجها ضمن طلب تنفيذ حكم التحكيم، ومن جهة أخرى، لم يحدد موعداً يتم خلاله تقديم طلب تنفيذ الحكم، وبالتالي يكون موعد تقديم طلب تنفيذ حكم التحكيم وفق القواعد العامة المدة التي تحكم تقادم الأحكام، وهي مدة سبع سنوات من تاريخ اكتساب الحكم درجة البتات.
أما في القانون الفرنسي، فإن قواعد التحكيم الملغية، في قانون أصول المحاكمات الفرنسي، لم تكن تستوجب شكلاً معيناً يجب تقديم طلب تنفيذ حكم التحكيم وفقاً له. إلا أن مرسوم رقم (48) لعام 2011 حول تعديل النصوص المتعلقة بالتحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية، كرس موقف الاجتهاد الفرنسي بخصوص عدم ضرورة تطبيق مبدأ الوجاهية على طلب تنفيذ حكم المحكمين( ).
فالمادة (1487/2) تنص على أن: "لا يطبق مبدأ الوجاهية على الإجراءات المتعلقة بطلب الصيغة التنفيذية". مما يعني حسب الرأي الراجح أن طلب تنفيذ الحكم يكون بعريضة مع صدور الأمر بالتنفيذ أو برفضه بدون حضور الخصوم( )، الأمر الذي كرسه المشرع اللبناني صراحة، إذ لا يكون القرار التحكيمي قابلاً للتنفيذ، إلا بأمر على عريضة بناء على طلب من ذوي العلاقة( ).
أما من حيث المدة، فلم يقيد المشرع الفرنسي تقديم طلب التنفيذ بميعاد معين، وذلك لأنه لم يربط بين إمكانية طلب تنفيذ حكم التحكيم، وبين موعد الطعن عليه.
فمن بعد صدور القرار التحكيمي، يكون الطعن إيطالاً أو استئنافاً مقبولاً من تاريخ تبليغ المحكوم عليه بصدور القرار، ولمدة شهر واحد( ).
وبناء على ذلك، يجوز تقديم طلب تنفيذ الحكم التحكيمي، بمجرد صدوره، وإذا حدث وتقدم الطرف المحكوم ضده، بالطعن (إبطالاً أو استئنافاً) فيتوقف تنفيذ الحكم التحكيمي بقوة القانون، وذلك في نطاق التحكيم الداخلي( )، بل أن مهلة الطعن المذكورة توقف تنفيذ الحكم حتى ولو لم يتقدم به المحكوم ضده.
أما بالنسبة لحالة تنفيذ حكم التحكيم الدولي الصادر في فرنسا، أو خارجها فإن تنفيذه يظل سارياً، فلا توقف مهلة الطعن أو التقدم به خلال مدة الشهر القانونية، تنفيذ الحكم بقوة القانون، وإنما يطرح طلب إيقاف التنفيذ على القاضي المختص (قاضي الإجراءات المستعجلة) ويقضي بإيقاف التنفيذ، إذا كان هذا الأخير يلحق أضراراً جسيمة بحقوق أحد الأطراف( ).
كذلك الحال في القانون اللبناني، فلم يتم تحديد ميعاد لتقديم طلب تنفيذ حكم التحكيم الأمر الذي يتيح تقديم طلب التنفيذ بمجرد صدور حكم المحكمين.
أما مرفقات طلب التنفيذ فهي:
أ- مرفقات طلب التنفيذ وفقاً لإتفاقية نيويورك:
بما أن اتفاقية نيويورك لم تحدد كيفية إجراءات طلب تنفيذ حكم التحكيم، تاركة ذلك للقوانين الوطنية، فأنها حددت المستندات الواجب تقديمها من أجل طلب التنفيذ. فالمادة الرابعة من الاتفاقية أوجبت على طالب التنفيذ، أن يقدم إلى القاضي في دولة التنفيذ، ما يلي:
1. قرار التحكيم الأصلي مصدقاً عليه وفق الأصول المتبعة أو نسخة معتمدة منه حسب الأصول.
2. إتفاق التحكيم الأصلي أو صورة معتمدة منه حسب الأصول.
وإذا كان الحكم التحكيمي أو إتفاق التحكيم مكتوبا بلغة غير اللغة الرسمية لدولة التنفيذ، فيجب على طالب التنفيذ تقديم ترجمة معتمدة لهاتين الوثيقتين من موظف رسمي إلى لغة دولة التنفيذ.
وقد استبعدت اتفاقية نيويورك ما تتطلبه بعض الاتفاقيات من مستندات أخرى قد تعرقل تنفيذ أحكام المحكمين. ومن أمثلة ذلك، ما تتطلبه إتفاقية الرياض للتعاون القضائي لعام 1983 ، بالإضافة إلى قرار وإتفاق التحكيم، شهادة صادرة من الجهة القضائية، التي صدر حكم التحكيم في ظلها، تفيد حيازته للقوة التنفيذية( )، فتكون فاعلية الأحكام التحكيمية أمام قضاء دولة التنفيذ، معلقة بالحصول على أمرين بالتنفيذ، في كل من دولة صدور الحكم ودولة تنفيذه، في ظل هذا الشرط..
ب- مرفقات طلب التنفيذ وفقا لقانون المرافعات العراقي:
لم يتضمن قانون المرافعات نصاً يفيد بوجوب تقديم مستندات ترفق في طلب تنفيذ حكم المحكمين، كما لم يبين موضع الصيغة التنفيذية، التي طبقاً لها يأمر القاضي يتنفيذ حكم التحكيم، فالأمر الوحيد الذي أوجبه المشرع العراقي في معاملة حكم التحكيم بعد إصداره هو إيداعه من بعد تسليم نسخة عنه لكلا الطرفين( ).
وعلى ذلك، يكفي في القانون العراقي، مجرد إيداع الحكم مع اتفاق التحكيم، ورفع دعوى إلى المحكمة المختصة يطلب فيها تنفيذ الحكم التحكيمي، ويكون إصدار الأمر بالتنفيذ على ضوء ما تم إيداعه، دون اشتراط إرفاق مستندات أخرى، في دعوى طلب تنفيذ الحكم.
ج- مرفقات طلب التنفيذ وفقا للقانونين الفرنسي واللبناني:
إن موقف المشرع العراقي مشابه لموقف المشرع اللبناني، حيث يتطلب الأخير، إيداع اتفاق، وحكم التحكيم لأغراض الصيغة التنفيذية( )، دون اشتراط تقديم هذه المستندات مرة أخرى أي إرفاقها مع طلب التنفيذ، على الرغم من إيداعها وهو نفس موقف القانون الفرنسي في هذا الصدد( ).





المبحث الثاني
إصدار أمر بتنفيذ حكم المحكمين
قد ينفذ الطرف المحكوم ضده حكم التحكيم طواعيةً، الأمر الذي لا يتطلب معه اتخاذ أي إجراء آخر لاعتراف المحكوم ضده بقوة الإلزام الواردة في حكم التحكيم، وقد لا ينفذ هذا الأخير، حكم التحكيم طواعية، فيتطلب القانون مصادقة المحكمة المختصة لتنفيذه جبراً بتنفيذ الحكم، لا يكون للحكم التحكيمي قوة التنفيذ، وقوة التنفيذ تجسد صلاحية ومكنة وفعالية ذاتية للحكم القضائي في تحريك السلطة العامة لإجبار المدين على تنفيذ مضمونه"( ). وهو أمر يفتقده حكم التحكيم، لكون القانون لم يجعله من السندات التنفيذية.
فالقاعدة في التنفيذ الجبري، أنه لا يجوز بغير سند تنفيذي( )، وحكم التحكيم، لا يصلح لوحده سنداً تنفيذياً، بل لا بد من صدور أمر من القاضي المختص، يمنحه قوة التنفيذ. وتتجلى غاية خضوع أحكام المحكمين للأمر بتنفيذها في الرقابة القضائية على الحكم، للتأكد من الشروط التي يفرضها المشرع الوطني على الحكم.
وعليه سيتم تقسيم هذا المبحث إلى مطلبين، سنتطرق في المطلب الأول لدراسة ضرورة الأمر بالتنفيذ، أما المطلب الثاني فسنتطرق فيه لدراسة سلطة القاضي الآمر بالتنفيذ.



المطلب الأول
ضرورة الأمر بالتنفيذ
إذا صدر حكم التحكيم فقد يقوم المحكوم عليه بتنفيذه اختيارا، وقد يمتنع عن ذلك، فيضطر المحكوم له، إلى تنفيذه جبراً. وإجراء التنفيذ الجبري، لا يتم إلا بأمر من القاضي المختص، لان حكم التحكيم، ليس من الأعمال القانونية التي أعطاها القانون قوة التنفيذ.
فالمشرع حين يسمح للأطراف التوجه إلى المحكم، لفض نزاعاتهم تأسيسا على اتفاق التحكيم، المبرم بينهم وحين يعطي لحكم التحكيم حجية الأمر المقضي، فانه لا يسمح للإرادة الخاصة للأطراف بإجراء التنفيذ الجبري، وحين يكون حكم التحكيم قابلاً للتنفيذ بدون أمر من القضاء وبسماح من المشرع فإنه يكون استثناء من الأصل.
لذلك، وبناءً عليه سنقسم هذا المطلب إلى فرعين، سنتطرق في الفرع الأول لدراسة غاية الأمر بالتنفيذ، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لدراسة التنفيذ بدون أمر من القضاء.

الفرع الأول
غاية الأمر بالتنفيذ
يذهب جانب من الفقه إلى أن مفترض القوة التنفيذية لحكم التحكيم ليس الحكم بمفرده، وإنما حكم التحكيم المأمور بتنفيذه. وبيان ذلك، أن السند التنفيذي بالنسبة لأحكام المحكمين، يتكون من عمل قانوني مركب من عنصرين( ) وهما:
حكم تحكيم يتضمن إلزام المحكوم عليه، بأداء معين، وأمر التنفيذ وهو الذي يعطي حكم المحكمين، قوته التنفيذية، فلكي ينفذ حكم التحكيم، يجب أن يكون حكم الزام بتنفيذ حق معين، كالإلزام بتسليم، أو بدفع، أو بهدم أو ببناء أو برد( ). فلا يمكن تنفيذ حكم تحكيم منشئ، أو مقرر، لعدم تضمنه عنصر الإلزام، وهو لا يقضي بشيء يجب اقتضاؤه جبراً، كما يجب أن يكون حكم التحكيم حائزاً لحجية الأمر المقضي، حتى ينفذ، وهو يكون كذلك، بمجرد صدوره، عندما يكون غير قابلاً للإستئناف( ).
ويعتبر حكم التحكيم، حائزاً لحجية الأمر المقضي بمجرد صدوره، لأنه غير قابل للاستئناف في القانون المصري( )، والفرنسي. أما في القانون العراقي، لا يكون حكم التحكيم، حائزاً لحجية الأمر المقضي بمجرد صدوره، ذلك لأن قانون المرافعات في المادة (274) منه، أعطى للمحكمة المعروض عليها القرار لتصديقه، الفصل في النزاع الذي فصل فيه حكم التحكيم إذا كان صالحاً لذلك.
أما العنصر الثاني للسند التنفيذي التحكيمي، فهو أمر التنفيذ، وهو إجراء يصدر من القاضي المختص قانوناً، ويأمر بمقتضاه بتمتع حكم المحكمين بالقوة التنفيذية، بناء على طلب المحكوم له، ويترتب عليه رفع حكم التحكيم إلى مصاف الأحكام القضائية الوطنية( )، والأمر بالتنفيذ، هو إجراء يميز أحكام التحكيم عن الأحكام القضائية. وتتمثل وظيفته برفع حكم المحكم - وطنياً كان أم أجنبيا - إلى مصاف السندات التنفيذية، وأحكام المحاكم الوطنية.
وبناء على ذلك، لا يجوز للمنفذ العدل في العراق( )، أن يقبل تنفيذ حكم التحكيم، إلا بعد صدور أمر بتنفيذه من القاضي المختص، فالأمر بالتنفيذ يجسد نقطة الالتقاء بين قضاء التحكيم، وقضاء الدولة( ).
أما عن موقف الفقه من الهدف من الأمر بالتنفيذ، فيعلل بعض الفقه( ) استلزام الأمر بتنفيذ حكم التحكيم بأن هذا الحكم، يمثل قضاء خاصاً والأمر وحده، هو الذي يرفعه إلى مرتبة أحكام المحاكم، فالحكم التحكيمي، يعتبر عملاً من أعمال الإرادة الخاصة، يستمد قوته الملزمة من اتفاق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم بدلاً من القضاء العام والمشرع يشترط أن تتدخل السلطة العامة، في تكوين السند التنفيذي، ولذلك فإن هذه الإرادة، لا تستطيع تكوين السندات التنفيذية، لعدم اعتراف المشرع لها بذلك.
وفي اتجاه آخر( )، يرى البعض أن التأكيد الذي يحتويه السند التنفيذي إنما يعترف له القانون بهذه القوة لأنه يصدر عن سلطة مخولة بإجرائه وهي القضاء العام، والتأكيد الصادر عن إرادة الأطراف المحتكمين في حكم التحكيم، لا يكفي لإنشاء السند التنفيذي لعدم صدوره من الجهة ذات الاختصاص بتكوين السندات التنفيذية وهم المحكمون.
ويرى جانب فقهي آخر( )، أن المقصود من الأمر بتنفيذ حكم التحكيم، هو التثبت من عدم وجود ما يمنع من تنفيذه، حيث يجب قبل تنفيذ الحكم، التأكد من أنه، صدر بناءً على اتفاق صحيح، وقضى في حدود هذا الاتفاق، وأنه لبس الشكل الذي قرره القانون له.
ويبرر البعض( )، لوجوب أمر التنفيذ، نظرة المشرع الحذرة النابعة من كون التحكيم قضاء استثنائياً وخاصاً يصدر فيه المحكمين حسب السلطات المخولة لهم، في اتفاق التحكيم من الأطراف قرارهم الذي لا يتمتع بالقوة التنفيذية إلا بعد إكسائه الصيغة التنفيذية، من قبل القاضي المختص.
في حين يذهب جانب من الفقه( )، إلى أن الأمر بالتنفيذ ما هو، إلا واقع مفروض على أحكام التحكيم لغياب سلطة تعلو فوق الدول، تستطيع الأمر بتنفيذ هذه القرارات، على اعتبار أن الأمر بالتنفيذ مجرد ترخيص ذو طبيعة إدارية لتنفيذ الحقيقة القاطعة التي جاءت بحكم التحكيم، فهو لا يغير من الطبيعة السابقة لهذا الأخير، خصوصاً وأن التحكيم أصبح قضاء مستقلاً، لمنازعات التجارة الدولية، يعلو فوق الدول.
ومن جانبنا، أياً كانت الغاية، التي طرحت من قبل الفقه لتبرير وجوب الأمر بتنفيذ حكم المحكمين، فإنه في النهاية، سوف يؤدي إلى رقابة القضاء على حكم المحكمين من أجل فحصه مما يمنع تنفيذه.
الفرع الثاني
التنفيذ بدون أمر من القضاء
قد ينفذ الطرف المحكوم ضده حكم التحكيم طواعية، فلا حاجة حينئذ لإصدار أمر بتنفيذه. كما إن بعض الإتفاقيات الدولية تتطلب تنفيذ حكم التحكيم مباشرة، من دون تمريره أمام القضاء الوطني لإصدار أمر بتنفيذه. وسنعالج هاتين الحالتين ضمن النقاط الآتية:
أولاً: التنفيذ الاختياري لحكم التحكيم:
تأتي في مقدمة مبررات الالتجاء للتحكيم، رغبة أطراف العلاقة القانونية في تفادي طرح منازعاتهم على القضاء مع ما تتسم به إجراءات التقاضي من بطء، وتعقيد، مع احتمالية استطالة أمد النزاع بسبب تعدد درجات التقاضي، وإمكانية الطعن في الأحكام والتعامل بالمماطلة المبني على الندية( ).
فاتفاق التحكيم يكشف عن رغبة الأطراف في حسم ما قد يثور بينهما من نزاعات، وينزع إلى حد كبير صفة الخصومة، ويقضي على وسائل المماطلة، إذ يفوض الأطراف أمرهم للمحكمين الذين اختاروهم بأنفسهم، وهم بهذا التفويض ارتضوا سلفاً خضوعهم لما يصدره المحكمون من قرارات، فالقضاء العادي هو قضاء العلاقات المحطمة يحتكم إليه الخصمان فيغلب ادعاء أحدهما على ادعاء الآخر، ثم يصرفهما غريمين هذا رابحاً فرحاً وذلك خاسراً محسوراً، بينما التحكيم هو قضاء العلاقات المتصلة يلجأ إليه الخصمان والعلاقات قائمة بينهما وينصرفان من حضرته ولا تزال العلاقات قائمة وقد انقشع ما أسدل عليها من خلاف"( ).
ولما كانت الودية، وليست الندية هي التي تحيط بالتحكيم، باعتباره الأسلوب المتطور، لفض المنازعات فان ذلك من شانه أن يدفع بأطرافه تحدوهم الرغبة في استمرار علاقاتهم مستقبلاً، إلى تنفيذ أحكام المحكمين في غالبية الأحيان طواعية واختياراً( ).
فمتى صدر حكم المحكم، وكان خاليا من العيوب فان حسن النية الذي يسود مناخ التحكيم يفترض قيام الأطراف بتنفيذه، ويكون هذا التنفيذ الودي نتيجة الطابع الاختياري الذي يقوم عليه نظام التحكيم، ولارتباط الخصوم باتفاق التحكيم.
لذا فإن الأصل في تنفيذ أحكام المحكمين - وخصوصا في منازعات التجارة الدولية - هو قيام المحكوم عليه، بتنفيذ الحكم اختياراً بدون ضرورة اللجوء إلى القضاء لاستصدار أمر بتنفيذه . ويلاحظ البعض( )، انه ليس هناك ما يستبعد قيام المحكوم عليه أمام المحاكم القضائية بتنفيذ الحكم الصادر ضده بمجرد النطق به وقبل تذييله بالصيغة التنفيذية، وهو ما يحصل عندما يستشعر المحكوم عليه إن هذا الحكم قد جسد وجه الحقيقة في النزاع، مما يستدعي قيامه بتنفيذه بوحي من ضميره حتى ولو لم يطلب المحكوم له، تنفيذه جبرا، وقد يكون قبول المحكوم عليه تنفيذ حكم التحكيم وديا صريحاً، أو ضمنياً، حيث لا يشترط شكل أو طريق للقبول الصريح، فقد يكون بخطاب يوجهه المحكوم عليه إلى المحكوم له يوضح فيه استعداده لتنفيذ الحكم، أو بتعهده بعدم الطعن فيه، أما القبول الضمني فيستخلص من ظروف الحال التي لا تدع مجالا للشك في صدور هذا القبول عن إرادة واضحة، ومؤكدة لتنفيذ الحكم.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع العراقي، وبهدف ترغيب المدين المحكوم عليه للوفاء بدينه رضاء، قد اقر له محفزاً مادياً : في حال قيامه بالتنفيذ الرضائي، وهو إعفائه من رسم التحصيل إذا قام بالتنفيذ طوعاً خلال سبعة أيام من تاريخ تبليغه بمذكرة الإخبار بالتنفيذ( ).
وقد كرست الأنظمة القانونية مبدأ التنفيذ الاختياري، أو الإرادي لحكم التحكيم وخصوصاً في التحكيم التجاري الدولي، من ذلك مثلاً، ما تنص علية المادة (34/2) من قواعد الأونسيترال للتحكيم بصيغتها المعتمدة لعام 2010 بأن: "تصدر كل قرارات التحكيم كتابة وتكون نهائية وملزمة للأطراف وينفذ الأطراف كل قرارات التحكيم دون إبطاء"، فيلاحظ على النص المتقدم مدى حرص لجنة القانون التجاري في الأمم المتحدة، عند وضع قواعد نموذجية للتحكيم لتتأسى بها مختلف مراكز تحكيم العالم على التنفيذ الاختياري لحكم التحكيم، وذلك تناغماً مع فلسفة التحكيم القائمة على قبول الأطراف به.
ويمكن القول بأن التنفيذ الاختياري لأحكام المحكمين لا يرجع إلى مجرد رضوخ إرادي من قبول المحكوم عليه بناءً على عوامل نفسية مثل حسن النية والأمانة في التعامل وإنما تحيط بالمحكوم عليه عدة دوافع، تحثه نحو التنفيذ الاختياري للحكم، منها:
1. وجود تشريع ينظم عملية تنفيذ حكم التحكيم تنظيما دقيقا، سواء كان ذلك التشريع داخلياً أم دولياً، كاتفاقية نيويورك لعام 1958 حيث يدرك المحكوم ضده، أن المماطلة بالتنفيذ ستؤول الى تحدي تشريع نافذ يجبره على التنفيذ، فيضطر إلى التنفيذ اختياراً( ).
2. وجود جزاء مهني يفرضه واقع التجارة الدولية في نطاق الإتحادات المهنية والتجارية المختلفة ومنظمات التحكيم العالمية، يكون مبنياً على أساس أن تدخلها في التحكيم يضفي عليه قيمة معنوية تحمل الخصم الخاسر على تنفيذ قرار التحكيم دون مماطلة، أو استشكال، ويتمثل هذا الجزاء بعدة صور منها التهديد بنشر أسماء المنشأت الممتنعة عن التنفيذ لإخلالها يحسن النية الذي تقتضيه أداب التجارة، والحرمان من الالتجاء إلى المنظمة لطلب التحكيم، والطرد من النقابة المهنية التي تتبعها هيئة التحكيم.
3. خشية من صدر حكم التحكيم ضده، من أن يعد عدم تنفيذه للحكم دليلا على وضعه المالي السيئ مما قد يسبب له مشاكل كثيرة في نطاق المعاملات التجارية( ).
4. خشية المحكوم ضده من انتقاده، وتوجيه اللوم إليه من قبل مجموعة تجارية، أو إتحاد تجاري مهني مما يمس بالسمعة الذاتية والتجارية للممتنع عن التنفيذ في أوساط المال والأعمال( ).
5. قد توضع جزاءات خاصة عند إبرام اتفاق التحكيم تتمثل في النص على بند جزائي، في اتفاق التحكيم يرتب التزامات مالية ثقيلة على الطرف المتثاقل، عن التنفيذ اختياراً.
6. بإمكان المحكوم له نشر قرار التحكيم ذاته، فتمثل عملية نشر القرار جانباً من الضغط على المحكوم عليه، حيث سيضطر هذا الأخير، تحت ضغط تهديد نشر قرار التحكيم الذي يتضمن مدى حجم الالتزامات المالية الواقعة على عاتقه، والأسرار التجارية المترتبة عليها الرضوخ للتنفيذ الطوعي.
وتجدر الإشارة إلى أن نشر قرار التحكيم، بناءً على طلب الطرف المحكوم له، فقط يمثل خروجا على مبدأ سرية التحكيم، إلا أنه يجد أساسه في قواعد تحكيم الأونسيترال الجديدة لعام 2010، إذ تنص المادة (34/5) منها على أن يجوز نشر قرار التحكيم علنا بموافقة كل الأطراف أو متى كان أحد الأطراف ملزماً قانوناً بأن يفصح عن ذلك القرار من أجل حماية حق قانوني أو المطالبة به في سياق إجراءات قانونية أمام محكمة أو هيئة مختصة.
ثانياً: النفاذ الدولي المباشر لحكم التحكيم
إذا كان التنفيذ الاختياري لأحكام المحكمين بعد استثناء من ضرورة استصدار أمر بتنفيذها، وإذا كان عدم التنفيذ طوعا للحكم من قبل المحكوم ضده يثير تطبيق القوانين الداخلية والاتفاقيات الدولية وخصوصاً اتفاقية نيويورك، إلا أن واقع التجارة الدولية أفرز نظاما يضمن تنفيذ حكم التحكيم بدون أمر من القضاء يتمثل باتفاقية واشنطن لتسوية نزاعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى لعام 1965 والتي تسمى اختصاراً باتفاقية واشنطن أو (ICSID).




المطلب الثاني
سلطة القاضي الأمر بالتنفيذ
يمارس القاضي المختص بالأمر بالتنفيذ دوراً رقابياً مهما على حكم التحكيم، إذ يقوم من خلال السلطة، التي منحها المشرع له بالتأكد من حكم التحكيم كمستند جامع الشروط التنفيذ، وفقاً للقانون الوطني. فالأمر بالتنفيذ ليس إجراء مادياً، أو إدارياً، فحسب، وإنما هو إجراء تتحدد من خلاله السلطة الممنوحة للقاضي، المعروض عليه الحكم لتنفيذه قبول أو رفض التنفيذ، والأصل أن حكم التحكيم يطرح على القاضي المختص من اجل تنفيذه الذي يتفحص شروط قابليته للتنفيذ وفقاً لقانونه هو ، ولكن قد يكون حكم التحكيم مزوداً بحكم قضائي أجنبي يأمر بتنفيذه، الأمر الذي قد يتضارب مع رقابة القاضي على حكم التحكيم.
وعليه سيتم تقسيم هذا المطلب إلى فرعين، سنتطرق في الفرع الأول لدراسة حدود رقابة القاضي عند إصدار الأمر بالتنفيذ، أما الفرع الثاني فسنتطرق فيه لدراسة دور القاضي الوطني إزاء حكم التحكيم المؤيد بحكم أجنبي.

الفرع الأول
حدود رقابة القاضي عند إصدار الأمر بالتنفيذ
بما أن وظيفة الأمر بالتنفيذ هي الرقابة القضائية على حكم التحكيم، فإن هذا الأمر حدوداً معينة لسلطة القاضي الأمر بالتنفيذ، فالملاحظ أن الأنظمة القانونية، تحدد پرسم جميع سلطة القاضي المطلوب منه تنفيذ حكم التحكيم بضوابط يتقيد بها عند إصدار الأمر بالتنفيذ.
وفي هذا الصدد، يرى بعض الفقه( )، أن الضوابط التي تتحدد على أساسها سلطة الأول: عدم الخلط بين سلطة محكمة الإبطال في تقدير أسباب الأبطال من جهة، وبين سلطة القاضي الذي يأمر بالتنفيذ تقوم على الموازنة بين إعتبارين:
الأول: عدم الخلط بين سلطة محكمة الإبطال في تقدير أسباب الإبطال من جهة، وبين سلطة قاضي التنفيذ في إصدار أمر التنفيذ من جهة أخرى.
الثاني: ضرورة قيام القاضي الأمر بالتنفيذ لرقابة تتسم بالحد الأدنى من الجدية، والفاعلية وليس مجرد رقابة إدارية.
1. سلطة القاضي عند إصدار الأمر بالتنفيذ وفقاً لإتفاقية نيويورك:
تقف اتفاقية نيويورك موقفاً وسطاً مابين الاعتبارين المتقدمين فهي من جهة تركت أسباب البطلان، وتنظيم الطعن به على أحكام المحكمين لدولة المقر ، وكرست رقابة خاصة عليها، في دولة التنفيذ تتسم بالتحديد، مع فك الارتباط بدولة مقر التحكيم، ما خلا حالة إلغاء أحكام المحكمين من قبل الدولة الأخيرة، فحينها ستكون محكمة دولة التنفيذ بالخيار بين تنفيذ الحكم أو رفضه بناء على طلب المحكوم ضده.
ومن جهة أخرى، حددت سلطة قاضي دولة التنفيذ بعدة حالات يتم بناء على توافرها رفض تنفيذ حكم التحكيم مع الالتفات إلى أن الاتفاقية منعت مراجعة الموضوع، الذي فصل فيه حكم التحكيم وأوجبت على الدول المتعاقدة الاعتراف بحجيته( ).
وبالرجوع لنص المادة (5) من الاتفاقية، نجد أنها وضعت حالات، أو شروط سلبية لرفض تنفيذ حكم التحكيم. حيث يتوجب على القاضي المطلوب منه التنفيذ وفقاً لاتفاقية نيويورك، أن يعترف بحجية حكم التحكيم وإضفاء الفاعلية عليه من خلال الأمر بتنفيذه، وهو الأصل، أما الاستثناء، فهو أن يرفض تنفيذ الحكم إذا أثبت الطرف المطلوب التنفيذ ضده أن:
1. طرفي اتفاق التحكيم. كانا عديمي الأهلية وفقاً لقانونهما، أو كان اتفاق التحكيم غير صحيح وفقاً للقانون الذي اختاره الطرفان للانطباق عليه.
2. الإخلال بمبدأ المواجهة وحق الدفاع وحق الإعلان.
3. عدم تقيد حكم التحكيم باتفاق الأطراف فيما فصل فيه.
4. عدم صحة إجراءات التحكيم وتشكيل هيئة التحكيم وفقاً لاتفاق الأطراف أو لقانون دولة مقر التحكيم أن لم يوجد اتفاق.
5. زوال الصفة الملزمة للحكم أو إلغاءه أو إيقاف تنفيذه من قبل دولة مقر التحكيم.
وللقاضي المطلوب منه التنفيذ الحق في أن يرفض تنفيذ الحكم من تلقاء نفسه إذا تبين مايلي: 1. عدم قابلية النزاع للتسوية بطريقة التحكيم وفقاً لقانون دولة التنفيذ.
2. تجاوز حكم التحكيم للنظام العام في دولة التنفيذ.
فالإتفاقية تلقي بعبء توافر أسباب رفض التنفيذ، في حكم التحكيم على عاتق المدعي بذلك، وهي ميزة تحسب لها في تيسير تنفيذ أحكام التحكيم.
ويلاحظ البعض( )، أن هذه الحالات أو الشروط السلبية جاءت على سبيل الحصر، فلا يجوز للقاضي الأمر بالتنفيذ رفض الاعتراف والتنفيذ لأي سبب من الأسباب، غير المذكورة في المادة الخامسة.
وبناءً على ذلك، لا تستطيع المحكمة المختصة، رفض طلب تنفيذ أحكام المحكمين لوجود خطأ في تحصيل الوقائع أو في تطبيق القانون فهي ليست جهة استئناف، وإنما يقتصر اختصاصها على إصدار الأمر بالتنفيذ، أو رفضه( ).
2. تمييز سلطة قاضي التنفيذ عن سلطة قاضي البطلان
يلاحظ أن الفقه، يجمع على أن قاضي دولة التنفيذ لا يمثل جهة استئناف، ومن ثم، لا يجوز له تنحية حكم التحكيم، والفصل في موضوع النزاع، الذي فصل فيه تطبيقاً لاتفاقية نيويورك، على أن الفقه اختلف في حدود سلطة القاضي الأمر بالتنفيذ، ويرجع سبب الاختلاف إلى أن اتفاقية نيويورك تسمح بإثارة ذات الأسباب - في الأغلب الأعم - لرفض التنفيذ التي تثار أمام المحكمة المختصة، بنظر دعوى البطلان( ). وتبعاً لذلك تثار إشكالية حدود الرقابة القضائية على أحكام التحكيم في دولة التنفيذ من حيث تشابهها وقربها من رقابة قضاء البطلان.
وفي هذا الصدد، يذهب جانب من الفقه( ) إلى أن سلطة المحكمة المختصة بإصدار الأمر بالتنفيذ، تتشابه مع سلطة محكمة البطلان بأمرين، الأول: عدم مراجعة حكم التحكيم من الناحية الموضوعية، والثاني: أنهما يقومان على حدود معينة تتمثل ببحث مدى توفر مجموعة من الشروط الشكلية التي يتطلبها المشرع في الحكم الملتمس الأمر بتنفيذه، فإذا لم تتوفر هذه الشروط أمام محكمة البطلان تقوم بإبطاله عند الطعن فيه بالبطلان، وإذا لم تتوفر هذه الشروط أمام محكمة التنفيذ ترفض تنفيذه.
ولكن التساؤل الذي يمكن إثارته بهذا الصدد هو: ما هي هذه الشروط الشكلية التي يؤدي عدم توفرها إلى قيام القاضي الأمر بالتنفيذ برفض التنفيذ؟ وإلى أي حد هي متقاربة مع أسباب البطلان؟
يذهب بعض الفقه ( )، إلى التشديد بهذا الجانب، إذ يرى انه يمتنع على القاضي الأمر بالتنفيذ، إصدار أمره بتنفيذ حكم المحكمين إذا احتوى على أية مخالفة يلحظها، وتؤدي إلى بطلان الحكم ولو لم تتعلق بالنظام العام، وعلى ذلك تكون أسباب البطلان هي نفسها، شروط تنفيذ الحكم التحكيمي.
وحجة الاتجاه المتقدم في ذلك، هي تعذر إصدار الأمر بتنفيذ حكم تحكيم مشوب بعيب يبطله وإن كان ممنوع على القاضي الأمر بالتنفيذ التمسك به من تلقاء نفسه( ).
على أن ما ذهب إليه هذا الرأي يحتوي على مبالغة مؤداها، عدم الثقة بقضاء التحكيم المتمثل بالحكم الصادر عنه من خلال فحص كل إجراءات بنائه، في جميع مراحله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أنه يغض النظر عن تقسيم الاختصاصات الذي أوردته اتفاقية نيويورك لعام 1958 وأغلب التشريعات، بخصوص إعطاء سلطة فحص ورقابة التثبت من خلو حكم المحكمين من أسباب بطلانه للمحكمة المختصة بنظر دعوى البطلان( ).
ومن جهة ثالثة، أن دعوى بطلان حكم التحكيم لا تتعلق بالنظام العام، ومن ثم من لا يتمسك بها أمام القضاء المختص يعتبر متنازلاً عنها، فلا يجوز له بعدئذٍ التمسك بأسبابها أمام قضاء التنفيذ( ).
وفضلاً عما تقدم، فإن هذا الإتجاه، يتناقض مع موقف القانونين الفرنسي، والمصري بخصوص رقابة القاضي الأمر بالتنفيذ. فوفقاً للمادة (1514) من المرسوم الفرنسي رقم (48) لسنة 2011 حول تعديل النصوص المتعلقة بالتحكيم في قانون أصول المحاكمات المدنية تنحصر رقابة القاضي الفرنسي، عند طلب تنفيذ حكم تحكيم دولي، بأمرين فقط وهي:
أ‌. بالتثبت من وجود الحكم من خلال إلقاء عبء إثبات وجوده على المتذرع به.
ب‌. عدم مخالفة الإعتراف، أو تنفيذ حكم التحكيم للنظام العام الدولي، بصورة واضحة.
ثانياً: موقف المشرع العراقي من سلطة القاضي الأمر بالتنفيذ:
تعطي المادة (273) للخصوم أن يتمسكوا ببطلان قرار التحكيم، عندما يطرح قرار التحكيم على المحكمة المختصة لتنفيذه، وللمحكمة من تلقاء نفسها إبطاله، وذلك في الأحوال الآتية:
1. صدور القرار بغير بيئة تحريرية، أو بناء على اتفاق باطل، أو خروج القرار عن حدود اتفاق الأطراف.
2. إذا خالف القرار قاعدة من قواعد النظام العام أو الآداب أو قاعدة من قواعد التحكيم المبنية في هذا القانون.
3. إذا تحقق سبب من الأسباب التي يجوز من أجلها إعادة المحاكمة( ).
4. إذا حصل خطأ جوهري في القرار أو في الإجراءات التي تؤثر في صحة القرار.
وأكثر من ذلك، تنص المادة (274) من قانون المرافعات العراقي على أن: "يجوز للمحكمة أن تصدق قرار التحكيم أو تبطله كلاً أو بعضاً ويجوز لها في حالة الإبطال كلاً أو بعضاً أن تعيد القضية إلى المحكمين لإصلاح ما شاب قرار التحكيم أو تفصل في النزاع بنفسها إذا كانت القضية صالحة للفصل فيها"، وتنص المادة (275) على أن: "الحكم الذي تصدره المحكمة المختصة وفقا للمادة السابقة غير قابل للاعتراض وإنما يقبل الطعن بالطرق الأخرى المقررة في القانون".
يفهم من نصوص المواد المتقدمة أن حكم التحكيم يتعرض لطريقين من الطعن وهما: الطعن بالبطلان والطعن بطرق الطعن المختلفة وهي الاستئناف وإعادة المحاكمة وتصحيح القرار التمييزي من خلال الطعن على حكم المحكمة التي تقرر صحة حكم التحكيم من الناحية الموضوعية والشكلية( ).
ثالثا: تقدير موقف المشرع العراقي من رقابة القاضي الأمر بالتنفيذ:
إن حكم التحكيم إذا جاء صحيحاً في جانب منه، وباطلاً في الشق الأخر، تصدق المحكمة الجزء الصحيح، وتبطل الشق الباطل، ويجوز لها في حالة الإبطال الكلي، أو الجزئي لحكم التحكيم أن تعيده إلى المحكمين لإصلاح ما شابه، أو تقوم هي بالفصل بالنزاع إذا كانت القضية صالحة للفصل فيها، وذلك وفقاً لقانون المرافعات العراقي.
وفي هذا الصدد، يذهب البعض( )، إلى أن منح محكمة الموضوع مثل هذا الدور الايجابي مهم جداً في العمل القضائي، وفي مجال التحكيم الذي قصد به أساساً إنهاء النزاع بأقل جهد، ووقت ومال، والبعد عن الإجراءات المعقدة، التي يتسم بها العمل القضائي.
والواقع إن إعطاء الأطراف الحق في التمسك بالحالات الواردة في المادة (273) من قانون المرافعات المدنية، وللمحكمة من تلقاء نفسها التمسك بها، لرفض تصديق حكم المحكمين من جهة، وأبطاله من جهة أخرى، والفصل بموضوع النزاع إن كان له مقتضى، من جهة ثالثة يثير الملاحظات الآتية:
1. أن المشرع العراقي منح المحكمة المعروض عليها الحكم سلطة واسعة، وذلك بالنظر إلى كون التحكيم قضاء خاصاً ومستقلاً، وإن الأطراف لجأوا إليه، اقتصاداً في الوقت والنفقات، الأمر الذي يقتضي عدم تعلق أسباب البطلان بالنظام العام بأجمعها، لكي تتمسك المحكمة بها، من تلقاء نفسها.
2. إن هذه السلطة فيها مجانبة واضحة لاتفاقية نيويورك، التي أصبح العراق مقبلاً على الانضمام إليها.
3. لم يفرق المشرع العراقي بين المحكمة المختصة بالإبطال وبين المحكمة المختصة بالتنفيذ، الأمر الذي قد يؤدي إلى تشديد الرقابة على حكم التحكيم عند طلب تنفيذه، التباساً بسلطة الإبطال.
4. إن دعوى البطلان، لا تتعلق بالنظام العام، حسب الرأي الراجح ( )، فهي حق للمستفيد منها، إن شاء استغلها، لهدم الحكم الصادر ضده، وان لم يشأ فيكون هو الخاسر الوحيد في التنفيذ.
5. يسمح قانون المرافعات العراقي بالمراجعة الموضوعية لحكم التحكيم عند طلب تنفيذه، فللمحكمة المختصة تنحية الحكم والقضاء بنفسها بموضوع النزاع عند توافر حالة من حالات البطلان، وهو أمر يستهلك الغاية والمبرر الرئيسي من اللجوء للتحكيم، وهو تفادي طرح النزاع على القضاء العادي.
فالمراجعة الموضوعية فيها مساس بقوة الأمر المقضي لحكم التحكيم، فضلاً عن إنكار مبدأ الاعتراف لإحكام التحكيم التجاري الدولي، بحجيتها من تاريخ صدورها، كما انه يفتح الباب أمام تفسير وتقدير صحة العقد الأصلي، مثار النزاع ومراقبة أدلة الثبوت، وتقدير الضرر، وتحديد التعويض، وإدخال التعويضات التي يقتضيها هذا البحث على أحكام التحكيم لذا فان هذا النظام قد تعرض لنقد شديد( )، لاسيما وان الدولة الأجنبية، التي صدر فيها الحكم الأجنبي أو الدولي المراد تنفيذه قد ترد على ذلك بالمثل حين يطلب إليها تنفيذ حكم صادر في جمهورية العراق.
وفي هذا الصدد، لاحظ البعض من الممارسين للتحكيم في العراق( ) أن المشكلة الأساسية بالنسبة للتحكيم، والحكم الصادر عنه والمتعلقة بعدم الاعتراف به كقضاء خاص نشأت بسبب عدم وضوح مجمل الهيكل العام لعملية التحكيم، وعدم استيعاب مقوماتها بسبب التناقض الحاصل بين متطلبات التحكيم الفعال وبين فكرة الولاية العامة للقضاء للبت في النزاعات التي تنشأ بين الأشخاص، فالأصل إن الفصل في النزاعات هو من اختصاص السلطة القضائية، وان الالتجاء إلى التحكيم إنما هو استثناء من الأصل، بينما يؤكد واقع الحال أن الأصل في التحكيم هو الاستغناء عن الالتجاء للمحاكم، والاستعاضة عن قضاء الدولة بجهة قضاء خاص.
لذا، ندعو القائمين على كتابة مشروع قانون التحكيم العراقي إلى تفادي نظام المراجعة الموضوعية لحكم التحكيم، والاعتراف بحجيته، كونه قضاء خاصاً قائماً على أساس اتفاق الأطراف، وتبني نظام المراقبة للحكم، الذي تتبناه غالبية الدول اليوم، والذي يقتصر دور القاضي الأمر بالتنفيذ على مباشرة رقابة شكلية وخارجية، على حكم التحكيم وبالقدر الذي يكفي من التحقق من توفر مجموعة من الشروط الشكلية، والأوضاع الخارجية للحكم، وعدم وجود مانع يحول دون تنفيذه( ).
وأخيراً، نرى أن سلطة القاضي الأمر بالتنفيذ تتحدد بالتأكد من الصلاحية، والمشروعية الظاهرة للحكم من خلال التأكد من إحتوائه على شروط صحته من الناحية الشكلية له كحكم وعدم اصطدامه بالنظام العام لدولة التنفيذ.
الفرع الثاني
دور القاضي الوطني إزاء حكم التحكيم المؤيد بحكم أجنبي
بغرض التوسع في بيان دور القاضي الوطني في اتجاه حكم التحكيم المؤيد بحكم أجنبي سوف نقوم ببيان كلاً من مفهوم حكم التحكيم المؤيد بحكم أجنبي في أولاً، ثم أثر الأمر بتنفيذ حكم التحكيم في ثانيا، والأساس القانوني لرفض تنفيذ الحكم الأجنبي الأمر بتنفيذ حكم تحكيمي في ثالثاً وذلك كما يلي:
أولاً: مفهوم حكم التحكيم المؤيد بحكم أجنبي:
قد يصدر حكم قضائي أجنبي يأمر بتنفيذ حكم تحكيم، من دولة أجنبية ترتبط بمعاهدة دولية - ثنائية أو جماعية - مع دولة القاضي الوطني المطروح عليه هذا الحكم لتنفيذه، ويكون القاضي المذكور ملزماً بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة من الدولة المتعاقدة، للمعاهدة المعقودة بين الدولتين فتثار مشكلة مدى التزام القاضي بتنفيذ هذا الحكم المشمول برعاية إتفاقية دولية بالنظر إلى أن النظام القانوني للقاضي الوطني في مختلف الدول يضع شروطاً، لتنفيذ أحكام التحكيم، تختلف غالباً عن الشروط والرقابة الموضوعة لتنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية.
ويزيد من تعقيد المشكلة، كون حكم التحكيم المأمور بتنفيذه في بلد أجنبي تغطيه اتفاقية دولية أيضاً، وضعت من اجل تسهيل تنفيذه مثل اتفاقية نيويورك لعام 1958. ففي هذه الحالة سيتجاذب حكم التحكيم ثلاثة أنظمة قانونية نافذة، وهي المعاهدة الدولية التي ترعى تنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية، والمعاهدة الدولية التي ترعى تنفيذ أحكام التحكيم، والنظام القانوني الداخلي للقاضي الوطني.
حكمت محكمة التمييز المدنية اللبنانية الغرفة الخامسة في هذا الأمر، قائلة إن "محكمة التمييز المدنية قبلت السبب التمييزي القائم على انتهاك القانون، ولا سيما المواد 72 و81 و1010 من مبادئ الإجراءات المدنية، المادة 17، بند المادة 5 من قانون تنظيم القضاء الشرعي، والمادة 444 من قانون القضاء، والمادة 79 من قانون الإجراءات المدنية وبحسب المعلومات الموجودة على أحد المواقع الإلكترونية، فإن المحكمة التي أصدرت الحكم في الخارج هي محكمة مدنية. لذلك، فإن قرار محكمة الاستئناف بمنح الصيغة التنفيذية للحكم الأجنبي كان من شأنه أن ينتهك، من ناحية، قواعد الاختصاص القضائي بسبب هذه القضية. على الرغم من أنه من اختصاص المحكمة الشرعية التي أصدرت الحكم، إلا أنها انتهكت أيضًا معايير الإثبات لأن الموقع لا يعد شرعيًا. لا يُقبل كدليل ولا هو مستند جمركي، وبسبب هذه المخالفة القانونية نشرت محكمة الاستئناف القضية وقررت نقض قراري منح الصيغة التنفيذية للحكم الأجنبي الصادر عن غرفة الاستئناف الخاصة بإمارة عجمان. وقد تم ذلك لأن القضاء العدلي يفتقر إلى سلطة الفصل في الطلب( ).
ثانياً: أثر الأمر بتنفيذ حكم التحكيم
بداية، تجدر الإشارة إلى أن الأمر بتنفيذ حكم التحكيم لا يغير من طبيعته القانونية، حيث لا ينقلب إلى حكم قضائي بالمعنى الفني، بحيث يؤول إلى القضاء نتيجة لذلك سلطات مراجعته، فأمر التنفيذ ليس عنصراً داخلياً يلزم توافره لتكوين العمل، والاعتداد بوجوده، لأن القاضي لا يملك إلا إصدار الأمر بالتنفيذ أو رفض إصداره وإذا أصدر الأمر بالتنفيذ، فإن الذي ينفذ هو حكم المحكمين بما يتضمنه من قضاء( ). وذلك يكشف عن أن السند التحكيمي هو سند مركب، أي أن مفترض القوة التنفيذية لحكم التحكيم ليس هو حكم التحكيم بمفرده، إنما هو حكم التحكيم المأمور بتنفيذه( ).
ويترتب على ذلك، أن الأمر بالتنفيذ هو مجرد عنصر خارجي لا يضيف للحكم، أية قوة الزامية وإنما يسبغ عليه فقط القوة التنفيذية، كما أنه لا يؤثر في وجود قرار التحكيم، أو في قيامه ولا يفقده صفته، أو يغير من طبيعته بأن يضفي عليه صفة الأحكام القضائية التي تصدر عن الجهاز القضائي في الدولة، فينحصر دور أمر التنفيذ في تقرير صلاحية حكم المحكمين في أن يرتب أثره التنفيذي( ). وعلى ذلك، فأن حكم التحكيم هو عمل قانوني ،ملزم بصرف النظر عن مدى قابليته للتنفيذ، فالأنظمة القانونية تكرس مبدأ حجية حكم التحكيم التي لا تحتاج بدورها إلى حكم قضائي لتقريرها. أكثر من ذلك تقرر بعض التشريعات قوة إلزامية للحكم التحكيمي، لا تجعله غير قابل للمراجعة فحسب وإنما لا تسمح بالطعن عليه حتى بطريق البطلان.
وإذا كانت الكثير من الأنظمة القانونية قد كرست هذا المبدأ، إلا أنها سكتت عن مدى التزام القاضي الوطني بالأمر الأجنبي الصادر بتنفيذ حكم التحكيم أو برفض التنفيذ أي الأثر الدولي للأمر الصادر بالتنفيذ، أو برفضه، ويتزامن هذا السكوت مع ما ذكرنا من قيام حكم التحكيم كحكم ملزم دون حاجة لحكم قضائي يضفي عليه هذه الصفة، الأمر الذي يمنح القاضي الوطني سلطة تقدير قابلية الحكم للتنفيذ، وفق شروطه هو، لا وفق شروط القاضي الأجنبي، الذي منحه قوة التنفيذ.
في هذا الصدد لم تتطرق اتفاقية نيويورك لعام 1958 لهذا الفرض، ولكن يمكن القول بأن اتفاقية نيويورك في موادها، وخصوصاً الخامسة منها توجب على القاضي الوطني المطروح عليه حكم التحكيم بغرض تنفيذه، أن يتأكد من مدى قابليته للتنفيذ وفقاً لشروط مادية أو موضوعية نصت عليها، ولا يتأثر قراره بمنح الحكم صيغة التنفيذ، أو رفض التنفيذ، بموقف دولة صدور الحكم من معاملة حكم التحكيم، إلا في حالة واحدة وهي إيطاله من قبل دولة صدوره، وبذلك لم تتطرق الاتفاقية لحالة صدور أمر بتنفيذ الحكم أو رفض تنفيذه، ومدى هو الحل تأثير ذلك على موقف قاضي دولة التنفيذ، في إصدار أمر التنفيذ، أو رفضه، فما الواجب إتباعه عند أكساء حكم التحكيم الأجنبي بصيغة التنفيذ بحكم صادر من قبل قاضي تابع الدولة أجنبية، ويخضع كلا الحكمين المعاهدة خاصة به؟
يذهب للبعض( ) إلى أنه: "في مجال التجارة الدولية، وحده التحكيم يؤمن تشكيل محكمة حيادية من الوجهة الوطنية، وخاضعة لغطاء معاهدة دولية تكفل تنقل القرار التحكيمي بصورة حرة بين دولة وأخرى الأمر الذي لا مثيل له في نظام الاعتراف بالأحكام القضائية الأجنبية. وعليه فإن التشريعات لم تكتف بإجازة التحكيم، بل شجعته في الحقل الدولي، وإذا كان صحيحاً أن المشرعين الوطنيين يثقون غالباً بالأجهزة القضائية المنشأة منهم أكثر من المحاكم الأجنبية، أو التحكيمية، فإنه من الثابت أيضاً أنهم يفضلون التحكيم على القضاء الأجنبي، في مواضيع التجارة الدولية".
وبناء على ذلك، فإن اتفاقية نيويورك ولكونها لا تنطبق على أحكام القضاء، فإن اندماج حكم التحكيم في حكم قضائي صدر في دولة الأصل يأمر بتنفيذ حكم التحكيم، لا يحول دون تنفيذ أو رفض تنفيذ هذا الحكم الأخير في دولة أخرى خارج الإقليم، ولا يقف بالتالي مانعاً دون تنفيذه خصوصاً وإن اتفاقية نيويورك قد استبعدت فكرة التنفيذ المزدوج( ).
فتنحصر آثار الأمر، الصادر بالتنفيذ أو برفضه في إطار النظام القانوني الذي صدر فيه فهو لا يلزم، ولا يقيد الدول الأخرى التي قد يطلب إليها الاعتراف، والتنفيذ.
ويمكن القول: إن الاتجاه المتقدم يتلاءم مع طبيعة الأمر بتنفيذ حكم التحكيم الأجنبي، حيث أن الأخير معترف بحجيته في غالبية النظم القانونية، فيكون موضوع الأمر بالتنفيذ -دعوى كان أم أمراً على عريضة - مختلفا عن موضوع الدعوى القضائية بصفة عامة، حيث موضوع دعوى أو أمر التنفيذ على حكم التحكيم المطلوب تنفيذه من أجل إكسائه صيغة التنفيذ.
لا يتعلق الأمر بطلب الحماية القضائية بصدد مركز قانوني متنازع عليه، وإنما ينصب في دولة القاضي المطلوب منه التنفيذ( ).

ثالثاً: الأساس القانوني لرفض تنفيذ الحكم الأجنبي الأمر بتنفيذ حكم تحكيمي:
إذا كان الأمر الأجنبي الصادر بتنفيذ حكم التحكيم لا يلزم الدول الأخرى بتنفيذ هذا الأمر، أو رفض تنفيذه، فان الفقه مختلف في تحديد الأساس القانوني لعدم إعطاء هذا الأمر قيمة دولية من قبل قاضي دولة التنفيذ.
فذهب جانب من الفقه( )، إلى أن أساس هذه القاعدة، انه لا توجد محكمة دولة بعينها يتعين طلب تنفيذ حكم التحكيم الدولي أمامها ، فكل دولة توجد بها أموال مملوكة للمحكوم ضده، يجوز التقدم إليها بطلب التنفيذ، بل إن الوضع الغالب أن يجري تنفيذ الحكم الواحد في أكثر من دولة.
في حين يرى جانب أخر من الفقه( )، أن أساس عدم التقيد بالحكم الأجنبي الأمر بتنفيذ حكم التحكيم أن إتفاقية نيويورك تدعو محاكم الدولة المنوط بها التنفيذ إلى أن تفصل في مسألة الاعتراف والتنفيذ عن طريق تقييم مباشر لحكم التحكيم، وفقا لمعايير محددة، ذلك بغية تفادي الاشتراط المزدوج لسند التنفيذ الذي كان مبنياً على المفهوم القائل بأن حكم التحكيم - بصفته عمل خاص - لا يتمتع بقوة ملزمة الا إذا تم التصديق عليه من قبل النظام القانوني للمقر، فاتفاقية نيويورك تدعو قاضي دولة التنفيذ، أن يركز على المادة الخام، التي هي حكم التحكيم وألا يعير اهتماماً بالأحكام القضائية الأخرى، التي قد تكون صدرت عن دولة المقر.
إن المهلة الممنوحة لاستئنــاف قرار الرفض هي ثلاثين يوماً اعتباراً من تاريخ إبلاغه، وتتم الإجراءات الاستئنافيــة لدى محكمة الاستئناف بشكل وجــاهــي( ). وإن رد الاستئناف أو رد طلــب الإبطال يمنح الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي( ).
وللمحكمة بعد بحث القرار التحكيمي أن تصدّقه كلاً أو بعضاً ولها في حالة الإبطال أن تعيده إلى المحكّمين وهذا ما نصّت عليه المادة (274) من قانون المرافعــات العراقي، حيث إنه بصدور القرار التحكيمي يستنفد المحكّم سلطته تجاه المسألة التي حكم فيها، فلا يستطيع بعد ذلك تعديل أو تبديل ما قضى به، فإذا كان القرار التحكيمي صادراً في إجراء من قواعد المرافعات، كما لو كان صادراً في عدم اختصاص المحكّم، ثم أبطلته المحكمة المختصة وأعادته إلى المحكّمين، فإن المحكّمين لم يستنفدوا ولايتهم تجاه موضوع النزاع، وبذلك لا يثر أية مشكلة مع استنفاد ولاية المحكّم، فما زال يملك المحكّم سلطة الفصل في الموضوع إذا كان ذلك ضمن مهلة التحكيم.
أما إذا كان القرار التحكيمي صادراً في موضوع النزاع وأنهى النزاع كله، فإن إعادة القرار التحكيمي إلى المحكّمين، وقد استنفدوا ولايتهم اتجاه الموضوع، يمثل استثناءً حقيقياً على استنفاد ولاية المحكّم، وفي ذلك قضت محكمة التمييز الاتحادية بقرارها بتاريخ 21/5/2008 حيث نصّت: " إذا كان هناك خطأ جوهري في قرار المحكّمين فللمحكمة أن تعيد القرار إليهم لإصلاحه أو أن تقرر إبطاله والخوض في موضوع الدعوى من قبلها" ( ).
إن القرار القضائي الذي يمنح للقرار التحكيمي الصيغة التنفيذية لا يكون معللاً بل توضع الصيغة التنفيذية على أصل القرار التحكيمي المودع وعلى الأصل المقدم من طالب هذه الصيغة ويعاد إليه هذا الأصل فور ذلك، وهو غير قابل لأي طعن مستقل وفق المادة (805) في الفقرة الأولى من القانون اللبناني الذي تضمّن وضعاً جديداً متمثلاً في أنه يميز بين قرار القاضي بمنح الصيغة التنفيذية، والذي لا يكون خاضعاً لأي وسيلة من وسائل المراجعة، وبين القرار التحكيمي الذي تمكن المراجعة بشأنه عن طريق طلب الإبطال، أو عن طريق الاستئناف في الحالات التي يتفق فيها الفرقاء على أن القرار التحكيمي يمكن استئنافه. وبعد أن قرّر المشرّع اللبناني بأن حكم التحكيم الذي تعطى له الصيغة التنفيذية غير قابل لأي طريق من طرق الطعن أضاف الاجتهاد "على أن استئناف القرار التحكيمي أو الطعن بطريق إبطاله يفيد حكماً في حدود الخصومة المنعقدة أمام محكمة الاستئناف طعناً بقرار الصيغة التنفيذية أو رفعاً ليد القاضي المختص بإصداره"( ).
وفي كل الأحوال، فإن القرار الذي يمنح التنفيذ لا يكون سارياً إلا بعد ثلاثين يوماً من تاريخ إبلاغه، وهي مهلة يتمكن فيها الفريق الآخر من الطعن بالقرار التحكيمي من خلال طلب إبطاله، أو من خلال تقديم استئنافه، وبالطبع فإن المراجعة توقف تنفيذ هذا القرار ما لم يكن مقروناً بالتنفيذ المعجل، حسب نص المادة (803) "ما لم يكن القرار التحكيمي معجل التنفيذ، فإن مهلة كل من الاستئناف والطعن بطريق الإبطال توقف تنفيذ القرار كما يوقف تنفيذه الطعن المقدم خلال المهلة( ).
أما بالنسبة للقرار الذي يمنح الصيغة التنفيذية، أو الذي يعترف بالقرار التحكيمي الصادر في الخارج، أو في لبنان فهو غير خاضع لأي وسيلة من وسائل الطعن لكن القرار التحكيمي الذي صدر في الخارج يكون قابلا للاستئناف إذا كان مشوباً بأحد العيوب المنصوص عليها في المادة (817) من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني حيث لا يكون استئناف القرار الذي يمنح الاعتراف، أو الصيغة التنفيذية جائزاً إلا في الحالات المنصوص عليها في المادة السابق ذكرها( ).
وهذا ما أكدته محكمة الاستئناف المدنية في بيروت، بأن يتم استئناف القرار المانح للصيغة التنفيذية لقرار تحكيمي دولي أو صادر في الخارج وفق المادة (817) من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني في إطار محاكمة وجاهية. أما طلب الصيغة التنفيذية، فيتم بالصورة الرجائية حيث إن المادة (817) من ذات القانون أعلاه حددت الحالات التي يمكن فيها استئناف القرار الذي يمنح القرار التحكيمي الدولي الصيغة التنفيذية( ).
من جانبنا نرى أن الأساس القانوني لرفض تنفيذ الحكم القضائي الأجنبي الأمر بتنفيذ حكم التحكيم، لا يقوم على أساس التحرر من كل ما يصدر من دولة المقر من أحكام قضائية بخصوص التحكيم، وبيان ذلك، أنه إذا كان بالإمكان عدم احترام الحكم القضائي الأجنبي الذي يبطل حكم التحكيم يقوم على أساس تطبيق مقتضيات العدالة أحياناً، أو تطبيقاً للمرونة التي يتصف بها النظام العام في بلد التنفيذ، فإنه يمكن رفض تنفيذ الحكم القضائي الأجنبي الأمر بتنفيذ حكم التحكيم لا على أساس تحرير حكم التحكيم، ولكن على أساس أن القاضي الأجنبي لا يملك فرض شروط لفعالية، أو لقابلية حكم التحكيم للتنفيذ على قاضي دولة التنفيذ، فيكون للقاضي الوطني رفض تنفيذ الحكم القضائي الأجنبي، ورفض تنفيذ حكم التحكيم تبعاً لذلك حسب شروط نظامه القانوني، ومدى ارتباطه بالنظام العام لدولته، فقد لا تقبل دولة مقر التحكيم مراقبة الحكم من خلال منع رفع دعوى ببطلانه وتمنحه الأمر بالتنفيذ مثلاً، أو لا تكون لدولة المقر رقابة على مدى صحة اختصاص هيئة التحكيم، لكونها هي التي تفصل بإختصاصها مثلاً، حينئذ لا تكون للأمر الصادر من دولة المقر بتنفيذ حكم التحكيم أية قيمة أمام قاضي دولة التنفيذ، لاحتمال اصطدامه بالنظام العام.
فــي الحــالة التي يرفــض فيها القاضــي منــح الصيغــة التنفيذية للقرار التحكيمي يقتضي أن يكون قراره بالرفض معللاً. ومثــل هــذا القرار الرافض هو قابــل لطرق المراجعــة عكس القرار الذي يمنح الصيغة التنفيذية ولا يجوز رفض الصيغــة التنفيذيــة إلا لأحــد أسباب الإبطال المنصــوص عليها في المادة (800) من قانون أصول المحاكمات المدنيــة اللبناني ( ). وفــي هذه الحالة لا يدون قرار الرفض على أصل القرار التحكيمي بل يوضع في مستند مستقل، وعادة في متن محضر المعاملـــة العالقـــة أمامه( ).
ومن جهة أخرى، قد يخالف طلب تنفيذ الحكم القضائي الأجنبي الأمر بتنفيذ حكم التحكيم قواعد الاختصاص القضائي المتعلقة، بطلب تنفيذ أحكام التحكيم، إذ تخصص كثير من الدول بعض محاكمها الوطنية لتنفيذ أحكام التحكيم، تختلف عن تلك المحاكم التي تختص بتنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية.
وما نقول به من عدم التقيد بالأمر الأجنبي الصادر بتنفيذ حكم التحكيم على أساس احترام شروط فعالية الحكم في دولة التنفيذ، لا يعدم في الواقع تطبيقه. ففي قضية حديثة تتمحور وقائعها حول سعي الطرف المدعي إلى استصدار قرار من المحاكم الألمانية، لتنفيذ حكم صادر عن المحكمة العليا، في ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية أمر بتنفيذ حكم تحكيمي رفضت المحكمة الفدرالية العليا في ألمانيا الاستجابة لطلب التنفيذ وذلك للأسباب الآتية:
1. إن التنفيذ في بلدين مختلفين للقرارات القضائية التي اعترفت بالأحكام التحكيمية وأعطتها صيغة التنفيذ هو مرفوض بشكل عام في الاتحاد الأوروبي استنادا إلى المادة (1/2/د) من نظام الاتحاد رقم 44/2001 حول الاختصاص والاعتراف وتنفيذ الأحكام في القضايا المدنية والتجارية. بالرغم من أن الأحكام التحكيمية تخرج بحد ذاتها عن إطار هذا النظام، غير أن القرارات القضائية التي قضت بتنفيذها تدخل ضمن نطاقه. وفي حالة صدور حكم قضائي أجنبي قضى بتنفيذ الحكم التحكيمي، قابلا للتنفيذ في بلد التنفيذ في قضاء البلد الذي صدر فيه فقط. وبالتالي، فان التنفيذ المزدوج من شأنه أن يفرض معايير قضاء البلد الأول حول تنفيذ الأحكام التحكيمية على قضاء البلد الثاني الذي يطلب فيه التنفيذ مجدداً.
2. اعتبرت المحكمة في السبب الثاني أنه لا ينبغي تعريض المدينين لأحكام قضائية متعددة قضت بالتنفيذ ومرتبطة بدعوى واحدة، الأمر الذي يسمح لطالبي التنفيذ باختيار الإجراء الأكثر تساهلا في تنفيذ الأحكام التحكيمية.
3. إن التنفيذ المزدوج للأحكام القضائية التي قضت بالاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية من شأنه أن يبطل مفعول تطبيق معايير تطبيق اتفاقية نيويورك لعام 1958.
4. إن منح الخيار بين تنفيذ الحكم التحكيمي والحكم القضائي الذي أعطى الصيغة التنفيذية للحكم التحكيمي من شأنه السماح للمدعي بالمطالبة بالتنفيذ حتى في الحالات التي تعطي فيها اتفاقية نيويورك للمحاكم القضائية سلطة رفض التنفيذ.
5. لا يجوز تفادي تطبيق اتفاقية نيويورك عبر السعي إلى تنفيذ حكم قضائي في بلد آخر قضى بتنفيذ حكم التحكيم، إذ يبقى مفعول هذا الحكم القضائي مرتبطا ومحصوراً بقضاء البلد الذي اعتمده.
6. بما إن القانون يسمح بتنفيذ الأحكام القضائية والتحكيمية في أماكن مختلفة، فإن منح الخيار من شأنه أن يعقد ويشتت تنفيذ الأحكام التحكيمية، مما يضع المدعى عليه في وضع مضر بحقوقه استنادا إلى المادة (1062/4/2) من القانون فإن المحاكم الإقليمية العليا المختصة بتنفيذ الأحكام التحكيمية في حين إن المادة (722/2) تنص على أن تنفيذ تكون هي الأحكام القضائية الصادرة بتنفيذ الأحكام القضائية الصادرة بتنفيذ الأحكام التحكيمية يمكن أن تصدر عن المحاكم الإقليمية أو محاكم المقاطعة حسب قيمة المبالغ المتنازع فيها، على أثره يقتضي رد طلب تنفيذ الحكم القضائي الأجنبي"( ).
يلاحظ على القضاء المتقدم ما يلي:
1. إن حكم المحكمة الفدرالية العليا، ركز بشكل بارز على استقلال شروط ومعايير قابلية الحكم للتنفيذ في دولة، أو دول التنفيذ، عن الدولة التي صدر منها الحكم القضائي الذي يأمر تنفيذ حكم التحكيم.
2. أكد الحكم المتقدم على الجانب الحمائي للمدين في عملية التنفيذ إذ قد يخير الدائن نفسه، بتنفيذ الحكم القضائي، أو الحكم التحكيمي حسب مقتضيات السهولة، وهو أمر قد يقع المدين ضحيته.
3. ركز الحكم على ضرورة احترام الاتفاقيات المعقودة، والمختصة بتنفيذ أحكام التحكيم وخصوصاً، اتفاقية نيويورك لكون الأحكام القضائية التي تعترف بأحكام التحكيم تتجاوز هذه الاتفاقية، عند طلب تنفيذها في كثير من جوانبها.


الخاتمة
في الواقع إن اهتمام المجتمع الدولي قد انصب على ضرورة وجود قواعد دولية ملزمة تضمن لأحكام التحكيم قوة نفاذ دولية، لا تتغير بتغير النظم القانونية التى يتم التنفيذ فى ظلها، بيد أن هناك مسألة مرتبطة لا تقل أهمية عن سابقتها ويتحقق من خلالها ذات الغرض الذي نأمله ومع ذلك فإنها لم تحظ بنفس القدر من الاهتمام وتركت كلياً لإرادة كل دولة أن تنظمها وفق قواعدها الوطنية، ألا وهي مسألة الطعن على أحكام التحكيم وبيان أوجهه وحالاته.
وفي الحقيقة أنه بمجرد أن يصدر المحكم حكمه في النزاع المعروض تتباين ردود فعل الأطراف إزاء هذا الحكم: فمن صدر الحكم لصالحه سيتجه بكل قوته، وبما تسمح له به النصوص، صوب تفعيل الحكم دون أن ينشغل بمسألة صحته أو سلامة جوانبه القانونية، أما من صدر الحكم ضده، والذي انتهى الأمر بالنسبة له بخسارته لقضيته، فإنه يتعلق بأهداب الأمل في إمكانية إعادة طرح الحكم على طاولة البحث أو على الأقل تتركز مساعيه في إعاقة أو الإبطاء من سرعة تنفيذ ماقضى به الحكم.
في هذا الإطار يتحدد مصير هذا الحكم بحيث يمكن أن يلقى تأييداً أو قد يصادف إلغاءً لكي تعود القضية لسيرتها الأولى وتنظرها درجة قضائية جديدة.
هكذا إذا أفلت حكم التحكيم وتجاوز عقبات الطعن فيه وأثبت سلامة جوانبه وأسسه القانونية صار نهائياً وملزماً وصارت له حجية الأمر المقضي. ومع ذلك حتى عندما يصبح حكم التحكيم نهائياً وملزماً فإن المشرع في كثير من الأحيان يحتفظ بمعالجات خاصة غير عادية يمكن أن تمثل طرقاً غير عادية للطعن على هذا الحكم.
هذا الذي أشرنا إليه يستوي فيه أن يكون الحكم قضائياً أو تحكيمياً، إلا أن هذا الأخير له خصوصيته: فالتحكيم محوره الإرادة، التحكيم جاء - بحسب الأصل - لكي يحقق المرونة والسرية والتوافق مع مقتضيات التجارة الدولية، وهي أمور لا يمكن أن نجني ثمارها إلا إذا تحقق للحكم الفاعلية والنفاذ.
ولكن يبقى القول أن واقع تماثل، أو الاقتراب من هذا التماثل، بين حكم التحكيم والحكم القضائي، ليس منحة بدون مقابل، إذ إن حكم التحكيم يخضع في مختلف الدول وفى مختلف الاتفاقيات الدولية ذات الصلة لرقابة القضاء.
ومع ذلك فإن هذه الرقابة تحتاج لقدر من الحكمة والحذر والتناول بقدر من الحساسية حتى لا نفوت أهداف نظام التحكيم ودواعيه. التحكيم في النهاية هو نتاج عقد، وإن الحكم الذي يصدر وفقاً له هو إعلان صادر عن قضاء خاص، الدولة وحدها هى التى ترفع من منزلة هذا الحكم ليصبح بناءً على تشريع صادر منها أو بناء على الانضمام لاتفاقية ذات صلة، في مصافِ الأحكام القضائية، وبدون هذه المزية المضافة لحكم التحكيم فإن التحكيم يتجرد من فاعليته ويصبح مفرغاً من مضمونه وأهدافه.
إذن فالمشهد الماثل للتحكيم أن أحكامه تتمتع بقيمة الأحكام القضائية والثمن في المقابل هو خضوع حكم التحكيم لرقابة القضاء.
والمسألة المطروحة فى هذا الإطار ليست في الحقيقة ما إذا كنا نراقب أو لا نراقب حكم التحكيم وإنما يتركز الأمر حول الأسلوب والحدود التي تدور في إطارها هذه الرقابة بحيث يمارس القضاء هذه المهمة بالأسلوب وبالطريقة التى لا تذهب بجوهر التحكيم وفلسفته وأهدافه.
بعد انتهاء بحثنا في موضوع الدراسة لا بد أن نورد عدد من الاتنتاجات والمقترحات التي توصلنا إليها من خلال هذه الدراسة وهي على الشكل التالي:
أولاً: النتائج
1. بعد أن تناولنا كيفية تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي في العراق، تبين أن المشرع العراقي أخذ بضابط مكان صدور حكم التحكيم لتحديده كحكم أجنبي، فإذا صدر حكم التحكيم خارج الإقليم العراقي كان حكم التحكيم أجنبياً. وقد اتضح من أن هناك عدد من الحالات لا يمكن أن ينفذ فيها حكم التحكيم الأجنبي، وبمقارنة نص المادة (5) من اتفاقية نيويورك بالنصوص المقابلة في قانون المرافعات المدنية، فإن أحكام هذه النصوص متوافقة على رفض تنفيذ حكم التحكيم الأجنبي في الحالات السابق عرضها.
2. تبين لدينا أنه سواء في الحالات التي يجب فيها على المحكوم عليه في حكم التحكيم أن يطلبها بنفسه من المحكمة حتى يتم رفض تنفيذ حكم التحكيم، وكذا الحالات التي يمكن للمحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها برفض التنفيذ وهي الحالات المتعلقة بتعارض الحكم التحكيمي مع النظام العام وعدم قابلية موضوع النزاع للفصل فيه بطريق التحكيم.
3. تبين لدينا عدم إمكانية تطبيق قانون تنفيذ الأحكام القضائية الأجنبية في العراق رقم 30 لعام 1928 على تنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية، وذلك للطبيعة الخاصة التي تميز أحكام المحكمين الأجنبية عن أحكام المحاكم.
4. إنتهينا إلى أن قانون المرافعات المدنية العراقي، لم يمنح المحكم إصدار أنواع مختلفة من القرارات التي تسهم في إنهاء خصومة التحكيم في كل أو جزء منها، ما عدا منح المحكم حق إصدار قرار نهائي فاصل في خصومة التحكيم وقرار إنهاء الخصومة المبني على الصلح كما لم يمنحه حق تصحيح الخطأ المادي في القرار الذي يصدره أو تفسيره من الغموض الذي يشوبه أو إكماله عند إغفال الفصل في بعض الطلبات في قرار لاحق.
5. وقد لاحظنا أيضاً، أن من من صدر حكم التحكيم لصالحه لا يعتبر قد وصل إلى بر الأمان بالنسبة لاقتضاء الحق الذي تقرر به، وإنما يكون ذلك من خلال التقدم بطلب تنفيذه الى القضاء المختص. وعند طلب تنفيذ حكم تحكيم، وطنياً كان أم أجنبياً، أم دولياً في العراق، يقتضي التنفيذ مصادقة المحكمة المختصة عليه، والأمر بتنفيذه، ولا يصدر الأمر بالتنفيذ إلا بعد تأكد القاضي المختص من شروط تنفيذه.
6. توصلنا إلى أن المشرع العراقي أعطى للمحكمة المعروض عليها حكم التحكيم عند طلب تنفيذه، سلطة واسعة لا تتلاءم مع التحكيم كقضاء خاص يلجأ إليه الأطراف لتفادي سلبيات القضاء العادي، وتتمثل هذه السلطة بإمكانية الأمر بتنفيذ الحكم أو إبطاله أو الفصل في موضوع النزاع، إن كان له مقتضى، ويخضع قرار المحكمة في هذا الشأن للطعن استئنافاً، وتمييزاً .
ثانياً: المقترحات
1. ندعو المشرع العراقي والمشرع اللبناني إلى تبني المعيار الاقتصادي والمعيار الجغرافي من أجل تحديد دولية التحكيم والأحكام الصادرة عنه.
2. ندعو المشرع العراقي والمشرع اللبناني إلى سن قانون متخصص بالتحكيم، يتضمن هذا القانون كافة الأمور المتعلقة بالتحكيم وإجراءاته سواء التحكيم الداخلي أو الدولي لا سيما تنفيذ القرارات التحكيمية وآلية الطعن فيها. ويتضمن قانون التحكيم كل ما يتعلق بالتحكيم وتنفيذالقرارات الصادرة عنه سواء الداخلية أم الدولية وعدم ترك النصوص المتعلقة في التحكيم لقانون المرافعات أو قانون أصول المحاكمات.
3. نهيب بالمشرع والقضاء العراقي واللبناني إعتماد المفهوم الموسع لحكم التحكيم، ليشمل ليس فقط الحكم الفاصل في الخصومة بأكملها، بل يشمل حكم التحكيم الجزئي الذي يفصل في بعض المنازعات أو الذي يتعلق بتحديد بإختصاص المحكمين . كما يشمل القرارات الإضافية التي يصدرها المحكم من أجل تفسير أو تصحيح، أو إكمال الحكم الذي أصدره، منهياً للخصومة، حتى يتسنى تنفيذها وسد باب التخاصم فيها مرة أخرى أمام القضاء.
4. ندعو المشرع العراقي والمشرع اللبناني إلى ضرورة تبني موقف إتفاقية نيويورك لعام 1958 والقانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لعام 2006، فيما يخص رفض تنفيذ أحكام التحكيم. حيث أن الأصل في اتفاقية نيويورك والقانون النموذجي هو قابلية حكم التحكيم للتنفيذ، والاستثناء رفض تنفيذه بناء على طلب المحكوم ضده إذا توفرت حالات معينة، ومن تلقاء نفس المحكمة المطلوب منها التنفيذ عند مخالفة الحكم للنظام العام أو عدم قابلية موضوع النزاع للتحكيم. على أن ذلك، لا يعني رفض التنفيذ بمجرد الإدعاء بتوفر سبب من أسباب رفض التنفيذ. فإحترام إرادة الأطراف التي إتجهت إلى قبول قضاء التحكيم، يقتضي تقليص تفسير أسباب رفض التنفيذ، وعدم التوسع فيها حتى لا يتم تعطيل التنفيذ وذلك من خلال الاعتماد على النظام العام كسبب رئيسي لرفض التنفيذ، مع ضرورة مراعاة توخي إضفاء الصفة الدولية.
5. ندعو المشرع العراقي فيما يخص إجراءات تنفيذ حكم التحكيم، عدم وضع ميعاد الإيداع أحكام المحكمين وجعل الإيداع حق للطرف المحكوم لصالحه أو الطرف الأكثر عجلة وعدم توجيب إبداع النسخ الأصلية لاتفاق وحكم التحكيم والاكتفاء بإيداع صورة منهما موقعا عليهما من المحكم أو جهة معتمدة حسب الأصول.
6. ندعو كل من المشرع العراقي إلى ضرورة التخلي عن أسلوب الدعوى لطلب تنفيذ أحكام التحكيم، وتبني أسلوب الأمر على عريضة كما هو الحال في القانون اللبناني، لتوافقه مع نظام التحكيم.
هالة عبود غير متواجد حالياً  
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
القرارت، التحكيمية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:10 AM.