المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحث فى الإصلاح القضائي.. بين استلهام الواقع .. وعشوائية التشريع


شموخ دبي
08-07-2011, 06:29 PM
بحث فى الإصلاح القضائي.. بين استلهام الواقع .. وعشوائية التشريع


ما من شك أن الإصلاح القضائي أضحي* غاية ترنو إليها أعين جميع المهتمين بالشأن القانوني أو المهمومين بشئون العدالة*.. وما أقصده من الإصلاح القضائي ليس المعني المتبادر إلي الذهن في خضم ما دار من خلاف بين القضاة في السنوات الأربع الأخيرة والذي كانت آخر حلقاته في الأسبوع الماضي في انتخابات نادي قضاة مصر والتي دارت رحاها علي حسب ما علمنا جميعا بين تيارين أولهما ينعت نفسه بتيار الاستقلال أو القضاة الإصلاحيين والآخر يسمي بتيار أو جبهة التغيير*. فحديثي اليوم ليس عن الإصلاح القضائي بمعناه الضيق المنحصر حول استقلال القضاء علي اختلاف معني هذا الاستقلال وحدوده وكيفية المطالبة به والمنافحة عنه بين تياري نادي القضاة سالفي الذكر*.
رغم إيماني الكامل بقضية استقلال القضاء كأولي الركائز وأهم دعامات الإصلاح القضائي المنشود*. إلا أن حديثي اليوم لن يتعلق بهذه المسألة بقدر ما يتصل بالإصلاح القضائي من جوانب أخري تتصل بعملية التشريع ذاتها*.. ولعل ما دفعني إلي فتح هذا الملف والذي قد يمتد إلي سلسلة من المقالات هو الخلاف الذي نشأ مؤخراً* حول مشروع قانون تعديل الرسوم القضائية،* فقد كشف الخلاف عن رأيين علي طرفي النقيض أولهما يري في هذا القانون ضرورة لابد منها في سبيل الإصلاح القضائي المنشود والرأي الثاني يعتبره انتكاسة دستورية وعدوانا صارخا علي حق التقاضي الذي كفله الدستور ويري في هذا القانون خطوة أولي نحو ما أسماه البعض بخصخصة القضاء*.
وما بين هذين الرأيين المتعارضين* غابت الرؤية الأهم في هذه المسألة وهي وجوب مراجعة جميع التشريعات ذات الصلة بالعملية القضائية مراجعة شاملة وواقعية تسهم في بلوغ* غاية الإصلاح المنشود وأول ما يستوقف النظر أننا بتنا نعاني مما يمكن تسميته مجازاً* بعشوائية التشريع أو بالتشريعات الانفعالية،* فما إن تطرأ مشكلة أو يسلط الضوء إعلامياً* علي مشكلة معينة إلا ونجد تشريعاً* انفعالياً* قد صدر لمجابهة هذه المشكلة*.
ومأساة هذا النوع من التشريعات أن ما يسفر عنه من نتائج في التطبيق العملي أكثر خطورة من الوضع القائم قبل إصدار هذا التشريع،* فعلي سبيل المثال فإن بعض الممارسات القضائية التي حادت عن فلسفة الحبس الاحتياطي كإجراء احترازي يصار إليه علي سبيل الاستثناء ولأسباب محددة دفعت المشرع إلي التدخل بتعديل قانون الإجراءات الجنائية بوضع سقف زمني للحبس الاحتياطي بحيث يتعين بقوة القانون الإفراج عن المتهم بعده فوراً*.
ورغم أنني كنت واحدا من المنادين بهذا التعديل والمدافعين عن مبرراته وعلي رأسها ضمانات المتهم وأصل البراءة المقرر بالمادة* 67* من الدستور،* إلا أن الواقع العملي وبعد هذا التعديل قد كشف عن نتائج* غير مرضية حيث ارتفعت بشكل ملحوظ نسبة الأحكام الغيابية الصادرة في مواد الجنايات خاصة الصادرة بالإعدام أو بالسجن المؤبد بحسبان أن الذين استفادوا من نصوص الحبس الاحتياطي الجديدة وأخلي سبيلهم هربوا ولم يعودوا إلي المحاكمة*. وإزاء تبين المحاكم لهذا الوضع الشاذ فقد دفع ذلك بعض محاكم الجنايات إلي أن تغض الطرف عن إخلاء سبيل المتهمين المحبوسين احتياطيا علي ذمة قضايا منظورة أمامها ولو تجاوزوا مدة الحبس* الاحتياطي*. وإزاء هذه الإشكالية وقبل أن يمر عام علي التشريع الجديد تدخل المشرع مجدداً* بتعديل هذا النص المعدل ليرفع من سقف الحبس الاحتياطي في الجنايات الخطيرة المعاقب عليها بالسجن المؤبد أو الإعدام إلي خمس سنوات بدلاً* من سنتين*.
وهناك العديد من الأمثلة الفجة لتشريعات عدلت قبل أن تدخل حيز النفاذ ومن أشهرها قانون التجارة رقم* 17* لسنة* 1999* والذي لحقته تعديلات متعددة ومتلاحقة فيما يتعلق بالمواد الخاصة بالشيك والتي لم تدخل حيز النفاذ إلا في* 2005*/10*/1* رغم أن القانون قد صدر في* 1999*/5*/17*. والسبب الواضح في هذا التخبط التشريعي الذي نعيشه هو حالة الانفعال اللحظي بالمشكلة أو الانفراد بإصدار تشريعات دون الاستماع الوافي لأصحاب الرأي من ذوي الخبرة العملية والذين لديهم من الإلمام بالواقع العملي وبأسباب المشكلات والبدائل المختلفة لحلها ما قد يسهم في إنارة الطريق أمام أصحاب القرار عند اتخاذه*. ذلك أن التشريع فن لابد أن يستلهم فيه الواقع الذي يشرع من أجله فإذا أتي التشريع منفصلا ومنفصما عن هذا الواقع فإن ما يفرزه من مشكلات يكون أكثر خطورة عن الوضع القائم قبله*.
ولذلك فإنني أدعو القائمين علي هذا الأمر إلي عملية مراجعة شاملة وليست جزئية تستجمع حوارا يضم جميع العاملين في الحقل القانوني من قضاة ومحامين وأساتذة جامعات لمراجعة حزمة التشريعات المتعلقة بصميم العملية القضائية مراجعة تستلهم الواقع من جهة وتستشرف المستقبل من جهة أخري حتي لا نجد تشريعاً* يعدل قبل أن يطبق أو تشريعاً* يكشف تطبيقه عن مشكلات أكبر عن تلك التي كانت قبله*. خاصة أن هناك من التشريعات التي أصيبت بحالة من الترهل الذي لا يجدي معه ترقيع أو إصلاح جزئي وإنما تحتاج إلي استحداث منظومات متكاملة من التشريعات*.. التي توائم العصر*.. وما طرأ من مشاكل معاصرة*. فلا يتصور علي سبيل المثال أن قانون الإجراءات الجنائية المصري الصادر عام* 1950* يظل معمولاً* به حتي الآن رغم أنه منقول عن قانون تحقيق الجنايات الفرنسي والذي ألغي عام* 1954،* واستحدث بدلاً* منه قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي الحالي والذي لحقته تعديلات كثيرة بما يعنيه ذلك من أننا نقلنا قانون الإجراءات عن قانون كان يلفظ أنفاسه الأخيرة ولازلنا نسير في ركابه ونتمسك بكثير من نصوصه رغم أن بعض هذه النصوص تتحدث عن أنظمة* غير مطبقة وكلما جدت لنا مشكلة فزعنا إلي عملية ترقيع لتلك النصوص وكأننا نعالج عرضا دون أن نواجه المرض*.. ونقف علي أسبابه*.. وصولاً* إلي العلاج السليم*.
ومن قبيل الإنصاف أن نشهد بأن الفترة الأخيرة قد كشفت عن جهد محمود لوزارة العدل في العديد من التشريعات التي جاءت كإجابة عن مطالب ملحة كشف عنها الواقع،* لكن من قبيل الإنصاف أيضا أن نقرر بأن المسألة أدق من مجرد إصدار تشريع وإنما الأهم هو أن يتواءم هذا التشريع مع الواقع وأن يأتي ملبياً* لاحتياجاته،* وبصراحة شديدة فقد بتنا في حاجة إلي مصفاة تشريعية تغربل هذا الزخم من التشريعات الذي لا مثيل له في أي دولة في العالم،* بحيث لا يبقي لدينا سوي المفيد والمجدي من تلك التشريعات*. فلك أن تتخيل أن هناك بعض المسائل ينتظمها أكثر من تشريع بل إن المأساة المضحكة أن القائمين علي أمر تنفيذ هذه التشريعات والمفترض فيهم العلم بها يجهلون الكثير منها*.. ومنها علي سبيل المثال بعض اللوائح التنفيذية أو القرارات الوزارية التي تصدر وتسقط من ديباجتها بعض القوانين المفترض أنها صدرت تنفيذاً* لها*. وأنا ألتمس العذر لهؤلاء لأنه لا يوجد في العالم بأسره أمثلة لهذا الكم الهائل من آلاف التشريعات والتي من الممكن بل ينبغي أن تختزل إلي بضع مئات فحسب*. أعلم أن الأمر ليس هيناً* ويحتاج إلي جهد من جميع المتخصصين في الشأن القانوني ولكن المسألة تحتاج إلي بداية وكل طريق يبدأ بخطوة وطريق الإصلاح القضائي وتحديثه ينبغي أن يبدأ بإصلاح تشريعي له جوانب متعددة*. وسوف أحاول في مقالات مقبلة إن شاء الله تعالي أن أؤدي واجبي كرجل قانون متمرس ومتخصص وأن أسهم ولو بالإشارة إلي بعض تلك الجوانب لعل وعسي أن يكون في كلمة منها ما يفيد في بلوغ* هذا الإصلاح المنشو
ي* في* شأن مراجعة التشريعات الحالية سواء من حيث فلسفتها او من حيث فعاليتها وجدواها في* مواجهة الواقع بلوغا الي* غاية منشودة للاصلاح القضائي،* فقد وجدت نفسي* متوجها بدافع من الخبرة العملية والتخصص في* أن تكون أولي* اوراق الملف المطروح للمنافسة تلك المتعلقة بالتشريعات الجنائية سواء ما تعلق بجانبها العقابي* او ما اتصل بالشق الإجرائي* منها*. وبنظرة عامة وأولية علي قانون العقوبات المصري* فإن أول ما* يصدم النظر هو تاريخ هذا القانون والذي* يحمل رقم *85 لسنة *7391،* ومن ذلك* يبين أن قانون العقوبات الحالي* هو ذاته الذي* صدر منذ نحو اثنين وسبعين عاما*. ولا ريب ان الواقع المصري* الذي* كان قائما منذ اثنين وسبعين عاما ليس هو الواقع المصري* الذي* نعيشه الآن،* وأقصد بالواقع المصري* ما تحمله الكلمة من معانٍ* تتسع للأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك من كافة الجوانب التي* يتشكل منها واقع الحياة في* دولة معينة*.
ففي* خلال هذه الاعوام السبعين التي* تربط بين صدور قانون العقوبات ويومنا هذا،* تغير شكل ونظام الحكم في* مصر،* وطرأ علي المجتمع المصري* تغيرات* وتحولات* يصح معها القول بأنه أصبح مجتمعا* يختلف كلية عن ذلك الذيكان قائما في* عام *7391. ولعل البعض* يتساءل مستنكراً* المناداة بمراجعة قانون العقوبات مراجعة شاملة بدعوي أن الجريمة لا تتغير منذ بدء الخليقة وإلي ان تقوم الساعة*.
وهو قول* غير صحيح لأن الجرائم في* ذمة التصنيف الواقعي* صنفان*: أولهما*: الجرائم الطبيعية وهي* تلك التي* تقوم علي أفعال تستهجنها الفطرة البشرية ولا تختلف الشرائع والتشريعات علي تجريمها وتحريمها أيا كان نصيب المجتمع من الحضارة والتقدم ومثلها القتل والسرقة*. وثانيهما*: الجرائم المصطنعة وهي* تلك التي* تقوم علي أفعال في* حقيقتها قد تكون مشروعة ولكن مجتمعا معينا في* فترة معينة قد* يتجه إلي تجريمها تحقيقا لمصلحة معينة،* وهذا الصنف من الجرائم قد تعرفه مجتمعات دون مجتمعات،* بمعني* أن الفعل قد* يكون مجرما في* مجتمع دون الآخر،* بل قد تتغير وجهة نظر المجتمع الواحد عن ذات الفعل من فترة لأخري حسب توجهات الدولة وأولويات مصالحها والتزاماتها،* ومن ذلك الجرائم التموينية،* وجرائم التعامل بالنقد الاجنبي*.
ولذلك فإن مراجعة قانون العقوبات مراجعة شاملة تبدو ملحة ومهمة بالنسبة لهذا الصنف من الجرائم،* لأن ما ترددت فيه الدولة والمجتمع المصري* بين اشكال مختلف من نظام الحكم وتحولات جذرية في* شتي المناحي* تقتضي* هذه المراجعة حتي* يكون قانون العقوبات في* شأن هذا النوع من الجرائم متفقا مع الواقع الذي* نعيشه بكافة عناصره،* ومنعا من الشذوذ الذي* قد* يصيب النص العقابي* حين نجد علي سبيل المثال نصوصا صدرت في* ظل اعتبارات مصاحبة لأنظمة معينة او تحقيقا لمصالح محددة أصبح لا وجود لها في* الواقع الحالي*. بل إن الجرائم الطبيعية ذاتها قد طرأ عليها* - بحكم تطورات العصر* - أشكال من التغير سواء في* طريقة ارتكاب الجريمة او الاشتراك فيها بما* يستدعي* نظرة متجددة من قانون العقوبات لهذه الاشكال المستحدثة للجرائم التقليدية*.
وفي* اطلاقة اكثر دقة،* وبنظرة أعمق تفحصا لنصوص قانون العقوبات تتكشف خطورة ما تحدثنا عنه من الانفعال اللحظي* وما* ينتج عنه من تشريعات انفعالية تفتقر الي الفلسفة المبررة لها كما* يعوزها استلهام الواقع الذي* صدر التشريع لمواجهته*. فعلي سبيل المثال ومنذ سنوات قليلة ليست ببعيدة انفعل المشرع ببعض الصور الاجرامية فأصدر تشريعا هو القانون *6 لسنة *8991 والمعروف بقانون البلطجة استحدث به الباب السادس عشر من الكتاب الثالث في* قانون العقوبات في* المادة *573 مكرر،* وسيقت الحجج لتبرير هذا النص،* واعتبر المدافعون عنه أن فيه مواجهة حاسمة سوف تقضي* علي ظاهرة جنح الضرب المستشرية في* الواقع الذي* نعيشه،* ولم تمض سبع سنوات إلا وصدر في* 7-5-6002 حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية هذا الباب لماشابه من عوار دستوري* إجرائي* لعدم عرضه علي مجلس الشوري لأخذ رأيه في* هذا القانون باعتباره من القوانين الماسة بالحرية الشخصية*.
ورغم ان اصلاح هذا العوار الدستوري* مسألة* يسيرة لا تقتضي* سوي إعادة اصدار ذات القانون بعد عرضه علي مجلس الشوري إلا أن ذلك لم* يحدث وهو ما* يؤكد ما نقوله من أن التشريع في* كثير من الاحيان محكوم بالانفعال اللحظي* دون ان* يتساند الي فلسفة عميقة،* اذ لو كان الامر كذلك لكان من الواجب أن* يعاد اصدار هذا القانون بعد اصلاح العوار الدستوري* الشكلي* مادام ان هذا القانون* يقتضيه الواقع ويتطلبه*. وقد بلغ* انفعال المشرع منتهاه عندما انفعل بحادث خطف جماعي* لأنثي* تمت مواقعتها بغير رضاها من الخاطفين فأصدر إضافة للمادة *092 من قانون العقوبات والتي* كانت تعاقب كل من خطف بالتحايل أو الاكراه انثي او بواسطة* غيره بالاشغال الشاقة المؤبدة* "السجن المؤبد حاليا*" فأضاف فقرة جديدة الي تلك المادة وأوجبت الحكم علي فاعل هذه الجناية بالاعدام اذا اقترنت بها جناية مواقعة المخطوفة بغير رضاها ونسي المشرع وهو في* قمة الانفعال ان الفرقة الثانية من المادة *092 كانت تعفي* الخاطف من العقاب اذا تزوج بما خطفها زواجا شرعيا وكان من ثمرة هذا الانفعال التشريعي* لمواجهة حالة او حالات مستفزة للشارع المصري* أن أفرز التطبيق العملي* نتائج مجافية للعدالة وكان من شأنها ان هدمت كل ما رمي إليه الشارع من تشديد إذا أفرز الواقع العملي* أن* يقوم الخاطف او آخر من الخاطفين بالزواج من الضحية زواجا صوريا وبالتهديد حتي* يقدمه المحكمة ويفلت الفاعل من العقاب ثم* يطلق الضحية في* اليوم التالي*.
وأدرك المشرع بعد فوات الاوان الحقيقة المؤلمة لهذا النص الذي* أتي في* ظروف انفعالية وقام بتعديله بالقانون *59 لسنة *3002 بعد أن أفلت العديد من المجرمين من العقاب وبعد ان عانت كثيرات من الضحايا واسرهن من نص جاء في* غفلة انفعالية دون ان* يتبصر لما قد* يفرزه الواقع العملي* والفقر *2 من المادة *092 والتي* تم إلغاؤها سنة *3002.
ومما* يحتاج كذلك الي مراجعة سريعة اقتضتها الاعتبارات العملية هذا النص سيئ السمعة المعروف بالمادة *701 مكرر من قانون العقوبات والذي* يعفي* الراشي* او الوسيط من العقوبة اذا اخبر السلطات بالجريمة او اعترف بها*. وبداية اؤكد ان النقص لا* يوجه الي النص ذاته وانما* يوجه إلي ما أفرزه الواقع من تطبيق عملي* لهذا النص جعل منه وصمة في* جبين العدالة* ينبغي* ان تنفضها عن ثوبها الطاهر*.
فهذا النص له مثيل في* كثير من المدونات العقابية ويجد فلسفته في* رغبة المشرع في* الكشف عن جريمة الرشوة وهي* جريمة مستترة* يدق ويصعب في* كثير من الاحيان إثباتها علي الموظف العام المرتشي،* فأوجد المشرع فكرة الإعفاء من العقوبة كحافز للراشي* او الوسيط في* الكشف عن تلك الجريمة وأسرارها تطهيراً* للوظيفة العامة من الموظفين الذين* يتاجرون بها*. إلا انه لا* يمكن ان* يتصور ان قصد المشرع قد اتجه الي أن* يتحول هذا النص الي ميزة* يستفيد منها اولئك الذين* يفسدون ذمة الموظف العام ويتسللون إليه من كافة الجوانب لإرشائه حتي* اذا ما تكشفت الواقعة فزعوا ليعتصموا بهذا النص للإفلات من العقوبة*.
كما لم* يدر في* بال المشرع ان هذا النص سوف* يتحول في* الواقع العملي* الي نوع من الإكراه المعنوي* وعدا ووعيدا بما* يدفع الكثير الي التقول كذبا علي الشرفاء من الموظفين ليظفروا بالاعفاء من العقاب*. وإزاء هذا الوضع المقلوب،* والذي* يكشف عن تناقض لا* يطيقه ضمير العدالة في* ان تجد اثنين من المتهمين بتقديم الرشوة الي موظف عام أحدهما اعترف ليستفيد من الإعفاء* - وقد* يكون كاذبا* - والآخر أنكر* - وقد* يكون صادقا* - ومع ذلك* يكون الحكم صادما لواقع والعدالة في* أن* يعفي* الأول من العقاب وهو معترف بالجريمة،* ويدان الثاني* وهو منكر لها خاصة اذا لم* يكن في* الواقعة من دليل سوي هذا الاعتراف من الراغب في* الاستفاد من مانع العقاب*. ولذلك تعالت الاصوات* - وبحق* - الي وجوب تعديل هذا النص بأن* يكون الاعفاء جوازيا للمحكمة وليس وجوبيا عليها،* أو أن* يكون الاعفاء مقصورا علي حالة الاخبار بالجريمة قبل وقوعها دون حالة الاعتراف بها بعد وقوعها واكتشاف السلطات لها،* بل ان البعض* يري ان هذا النص بوضعه الحالي* مشوب بشبهة عدم الدستورية،* وقد وصل الأمر الي طعن بهذا المعني* أمام المحكمة الدستورية العليا والتي* لم تقل كلمتها فيه حتي* الآن*. وأيا ما كان أمر هذا النص من زاوية الدستورية أو عدمها،* فإن ما أفرزه في* الواقع العملي* خاصة في* السنوات العشر الاخيرة* يقتضي* التدخل السريع والحاسم بالمراجعة والتعديل المطلوب*.
فمن العجيب أنه حيث* يكون الأمر ملحاً* يتثاقل المشرع او* يتأخر،* بينما وفي* كثير من الاحيان،* حيث* يكون التعديل* غير ضروري* تتسارع خطي التشريع ليكشف تطبيقه عن مضار اكثر بما* يدعو الي القول بأن عدمه كان أجدي*. ناهيك عن النصوص الاخري في* قوانين عقابية خاصة صدرت في* ظروف ليس لها وجود ومنها القانون رقم *01 لسنة *4191 بشأن التجمهر،* ولعل البعض من* غير المتخصصين قد* يعتقد أنها من قبيل الطرفة حين أقول إن قانون العقوبات المصري* به نص صادر بدكريتو عثماني* في* القرن الماضي،* ورغم أن الدولة العثمانية ذاتها قد زالت من الموجود،* وأن القرن قد لحقه قرنان بعده إلا أن النص في* المادة *123 مكررا من قانون العقوبات لازال صامدا* يتحدي* الزمن وكأنه من الآثار الخالدة التي* يتبقي لمئات وآلاف السنين*. وسوف نستكمل الحديث عن إصلاح التشريعات العقابية في* الاسبوع المقبل ان شاء الله تعال
بشأن ملف المراجعة التشريعية المطلوبة بلوغاً* إلي الإصلاح القضائي المنشود،* وامتداداً* للحديث الذي عرجنا فيه في الأسبوع الماضي علي أمثلة لعدة مواضع في قانون العقوبات والتي تكشف عن قصور تشريعي واضح سواء فيما يتعلق بفقدان النصوص لفعاليتها وجدواها أو لانفصام كامل بين بعض النصوص عن الواقع،* أو لحالات انفعل فيها المشرع لحظياً* فأخرج للواقع نصاً* تبين في التطبيق العملي أن ما رتبه من نتائج أكثر ضرراً* وخطورة مما كان قبله*.
وفي السياق ذاته،* وقبل أن نطوي صفحة قانون العقوبات لننتقل إلي ورقة أخري من أوراق الملف المطروح للمناقشة،* فإن نصوصاً* أخري في قانون العقوبات تحتاج إلي هذه المراجعة ومن بين هذه النصوص ما أضحي متعارضاً* مع التزامات مصر علي المستوي الدولي في ضوء ما أبرمته من اتفاقات ومعاهدات باتت ملزمة ولها قوة القانون بعد التصديق عليها من مجلس الشعب وفقاً* للمادة* 151* من الدستور المصري،* ومن هذه النصوص المادة* 116* مكرراً* ج والتي تعاقب بالسجن كل من ارتكب* غشاً* في تنفيذ عقد مقاولة أو نقل أو توريد أو التزام أو أشغال عامة ارتبط به مع إحدي الجهات العامة المبينة في المادة* 119* من قانون العقوبات*.
والمتتبع لهذا النص من الناحية التاريخية يجده قد أضيف إلي قانون العقوبات بالقانون رقم* 63* لسنة* 1975،* وهي فترة تاريخية سميت بفترة الانفتاح الاقتصادي والتي بدأ فيها التعامل والتعاقد مع الجهات الحكومية والشركات الخاصة يزداد،* وبدأ البعض في ظل* غياب الرقابة وعدم وضوح معالم هذا الانفتاح الاقتصادي في بداياته يعمد إلي الغش في تنفيذ هذه العقود بما دفع المشرع في هذه اللحظة التاريخية أن يتدخل احتياطاً* وصيانة للمال العام*.
ولكن وبعد أن توارت تلك الفترة في ذاكرة التاريخ،* وهدأ الانفعال الدافع لاستحداث هذا النص كان من الواجب أن يكون محل مراجعة يقوم بها المتخصصون في هدوء وروية وفي ضوء التزامات مصر الدولية*. فهذا النص يتعارض تعارضاً* صريحاً* وواضحاً* مع العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأمم المتحدة والذي وقعت عليه مصر وتصدق عليه من مجلس الشعب وأصبح له قوة القانون بموجب المادة* 151* من الدستور المشار إليه*.
فوفقاً* لهذا العهد لا يجوز تأثيم إنسان بناء علي التزام تعاقدي،* لأن العقد علاقة مدنية بحتة بين طرفيه،* والاختصاص بالفصل في المنازعات التي تنشأ عنه يكون من اختصاص المحاكم المدنية وفقاً* لنصوص القانون المدني،* كما أن الغش أو التدليس عيبان من عيوب الإرادة يبطلان العقد من الناحية المدنية*. وجميع دول العالم التي وقعت علي هذا العهد الدولي التزمت بهذا الفهم العادل والذي يقيم فاصلاً* بين العلاقات المدنية البحتة وأوضحها العلاقات التعاقدية وبين الجرائم الجنائية التي يعاقب عليها القانون بعقوبات جنائية*. ومن ثم فإن نص المادة* 116* مكرر ج بات يحتاج إلي مراجعة تعيد العلاقة التعاقدية بين الأشخاص والجهات الحكومية إلي حظيرتها الطبيعية في رحاب القانون المدني،* خاصة وأن الوضع الحالي وفوق تعارضه مع التزامات مصر الدولية فهو كذلك يورث في الواقع العملي تناقضاً* وإخلالاً* بمبدأ المساواة،* حيث تجد أن العقد المبرم بين أطراف*.. سواء بين أشخاص عاديين أو حتي بين شركات خاصة مهما كان حجمها لا يشكل الإخلال به سوي منازعة مدنية بحتة*.. لا جريمة فيها*.. بينما ذات العقد متي كان أحد أطرافه جهة عامة مما نص عليهم في المادة* 119* من قانون العقوبات فإن الإخلال به يعد جريمة مؤثمة بالمادة* 116* مكرر ج عقوبات تقود الطرف المخل بالعقد إلي ساحة المحاكم الجنائية ليواجه شبح الإدانة بعقوبة قد تصل إلي خمسة عشر عاماً*.
ومن النصوص التي تحتاج كذلك إلي مراجعة عاجلة دعت إليها الأشكال الحديثة للجريمة نص المادة* 240* الخاص بجناية الضرب المفضي إلي عاهة مستديمة،* فتغير شكل الجريمة والذي أدي في الواقع إلي أساليب قد تؤدي فعلياً* إلي موت مدني للمجني عليه بحيث قد يتم تشويهه بالكامل أو إصابته بشلل كامل في كافة أجزاء جسده*.. فيصبح مجرد جثة هامدة تتمني الموت لما يكابده من آلام جسدية ونفسية فإن هذه الصور وغيرها لا تفرق عن حالات الموت الفعلي في جناية القتل العمد التي يعاقب المشرع عليها في المادة* 230* بالإعدام متي كانت مقترنة بسبق الإصرار أو الترصد أو بالسجن المؤبد في المادة* 234* متي تجردت عن هذين الظرفين وهو ما يقتضي تدخلاً* من المشرع إذ إن العدالة تتأذي من بعض الصور البشعة لجرائم الاعتداء والضرب والتي وإن لم يقتل فيها المجني عليه وتزهق روحه إلا أنها في الواقع تتركه في موت مدني جثة هامدة ليس بها سوي أنفاس صاعدة وهابطة والتي تتحقق معها ذات علة*.. القتل العمد*.
ولا يتصور في اقران هذه الصور البشعة أن تكون أقصي العقوبة فيها وفقاً* للمادة* 1*/240* من قانون العقوبات خمس سنوات إذا كان الضرب بغير سبق إصرار أو ترصد*. فأمثال هذه الحالات والتي لم تكن معهودة أو معروفة حينما صدر هذا النص في عام* 1937* تقتضي تدخلاً* حاسماً* بتشديد العقوبة تشديداً* يتواءم مع بشاعة الجرم وخطورة المجرم ويتحقق معه فلسفة العقوبة*.. والغاية المنطقية فيها*.. وهي الزجر والردع*.
ومن بين النصوص التي تعكس حالة* غياب الوعي التشريعي أو الصمت التشريعي في مواجهة حالات أفرزها تغير الواقع والمجتمع نص المادة* 292* من قانون العقوبات والذي يعاقب بالحبس الذي لا يتجاوز سنة أو بالغرامة التي لا تزيد علي خمسمائة جنيه أي من الوالدين أو الجدين لم يسلم ولده أو ولد ولده إلي من له الحق في ذلك أو قام بخطفه بنفسه أو بواسطة* غيره*. وهذا النص ينفصل تماماً* عن الواقع والذي يشير إلي مشكلة حقيقية بالغة الخطورة تتعلق بحق الرؤية وتنفيذ الأحكام الصادرة بهذا الحق بين الطليقين*.
وقد يذهل البعض حين يعلم أن مشكلة حق رؤية الصغير المحضون مشكلة قائمة لدي حوالي ثلاثة ملايين أسرة علي أقل التقديرات*. ووجه الخطورة في هذه المشكلة هو عدم تنفيذ أو عرقلة تنفيذ حق الرؤية من جانب الطرف الحاضن للطفل وللأسف الشديد أن قانون الأحوال الشخصية في المادة* 20* الصادرة بالمرسوم* 25* لسنة* 1929* لا ترتب جزاء رادعاً* لمواجهة هذه الحالات*. ولذلك فإن نص المادة* 292* عقوبات ينبغي عليه في ضوء هذا الواقع المرير أن يعاد النظر إليه إذ لا يتصور أن الطرف* غير الحاضن والذي يفشل في رؤية ولده سواء بالتراضي أو بحكم القضاء أن يجد نفسه متهماً* بخطف ولده أو أن يجد الجد نفسه متهماً* بخطف حفيده*.
وهذا النص يثير مسألة في* غاية الأهمية تتعلق بالنصوص العقابية المرتبطة ارتباطاً* لا يقبل التجزئة بمشكلات أخري تنظمها قوانين مستقلة،* إذ ينبغي أن تكون نظرة المشرع العقابي مستلهمة لواقع هذه المشكلات وحجمها الحقيقي وأبعادها*. ولو استلهم المشرع العقابي الواقع في مشكلة حق الرؤية وأنصف في إحداث الموازنة التشريعية لكان من الواجب أن يضاف إلي نص المادة* 292* فقرة تعاقب بذات العقوبة الحاضن الذي يمتنع أو يعرقل تنفيذ حق الرؤية ويحول بين صاحب الحق في الرؤية وبين هذا الحق بأي شكل من الأشكال*. وقد زاد الإلحاح في مراجعة هذه المادة بعد أن كشف رأي مجمع البحوث الإسلامية الأخير في مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية عن رأي الشرع والذي يرفض حبس الأب عن خطف ولده،* فإذا كان الشرع لا يجيز قتل الوالد في ولده فهو من باب أولي يحول دون معاقبته إذا ما حاول خطفه*.
خاصة أن من فقهاء القانون من يري أن معني الخطف لغة وقانوناً* يستحيل أن يتحقق لدي الأب أو الجد إذ إن الخطف يلزم قانوناً* إبعاد المخطوف عن ذويه وهو ما لا يمكن تصوره واقعاً* أو منطقاً*.. إذ الأب أو الجد من ذويه،* ومما يعكس أخيراً* حالة الجمود التشريعي والسلبية التشريعية أن المحكمة الدستورية العليا قد أفصحت في أكثر من حكم عن عدم دستورية النصوص الجنائية التي تقوم علي افتراض مسئولية المتهم أو تفترض العلم لديه أو تقيم المسئولية الجنائية عن فعل الغير كما هو الحال في المادة* 195* عقوبات التي كانت تفترض مسئولية رئيس التحرير أو المادة الثانية من قانون الغش التي كانت تفترض العلم بالغش*.. وتفترض مسئولية صاحب المحل أو مديره المسئول*.
ورغم وضوح رؤية المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن فقد كان ذلك يقتضي أن ينهض المشرع بمراجعة شاملة ينقي خلالها المدونات العقابية من النصوص المثيلة المشوبة بعوار عدم الدستورية،* ومنها المادة الثانية من قانون الكسب* غير المشروع والتي تناقض أصل البراءة المكفول في المادة* 67* من الدستور وتقلب عبء الإثبات،* خاصة وقد كشفت محكمة النقض عن هذا الوجه من العوار في حكم شهير لها انتهي بالنقض والبراءة*.. وقد تأسس ـ في سابقة قضائية ـ علي أن المادة الثانية من قانون الكسب يناقض صريح نص المادة* 67* من الدستور والتي تكفل أصل البراءة*..بما تفرضه من أن عبء إثبات الاتهام يقع علي عاتق من يدعيه*.. ولا يجوز قلب هذا العبء بحيث يفترض أن كل زيادة في ثروة الموظف العام*.. قرينة علي أنها كسب* غير مشروع وعليه عبء نفي ذلك*.. وانتهت إلي أن تلك المادة*.. باتت منسوخة بقوة المادة* 67* من الدستور*. وعلي وجه الخصوص أن مصر لا تعرف نظام الدعوي الدستورية المبتدأة،* مما كان يقتضي لزوماً* من المشرع أن ينهض لأداء دوره في تنقية التشريعات العقابية القائمة علي ذات العيب الدستوري أما وأنه لم يقم بذلك فإن ذلك يعكس حالة اللامبالاة أو السلبية التشريعية التي نعيشها،* فحيث تكون الإيجابية والسرعة مطلوبة لا نجد المشرع يتحرك،* وحيث يكون التأني والتروي مطلوبين نجده يسارع الخطي فينفعل ويشرع*.





منقول
كلية الحقوق جامعة المنصورة (http://www.f-law.net/law/archive/index.php?api=1) > الأقسام العلمية (http://www.f-law.net/law/archive/index.php?f-1.html&) > قانون المرافعات و التحكيم (http://www.f-law.net/law/archive/index.php?f-43.html&) > بحث فى الإصلاح القضائي*.. بين استلهام الواقع*.. وعشوائية التشريع*
http://www.f-law.net/law/archive/index.php?t-50185.html&

قانونية وافتخر
08-09-2011, 12:50 AM
يعطيج العافية أختي شموخ دبي ع النقل الرائع..

وتقبلي مروري :)

شموخ دبي
08-11-2011, 01:46 AM
الله يعااافييييج

المحامية نوال زايد
08-11-2011, 03:17 AM
تسلمين اختي شموخ دبي على البحث والنقل المفصل ..

يعطيج العافيه وتقبلي مروري :)