محمد ابراهيم البادي
03-09-2010, 12:36 PM
الحجر على السفيه
مبدأ الحجر
من المسائل الخلافية في القوانين مسألة الحجر على السفيه، أي المبذر ومن ألحق به. أيترك هذا حراً يتصرف في أمواله ومصالحه كما يشاء؟ أم يحجر عليه وتمنع تصرفاته المضرة به؟ في ذلك ذهبت الشرائع مذاهب شتى.
ففي القانونين الروماني والألماني (المادتان 6و1896) مثلاً، يحجر على المبذر وينصب عليه وصي أو قيّم، لينوب عنه في التصرّفات المضرة بمصلحته. وفي القانون المدني الفرنسي (المادة 513)، يجوز للمحكمة أن تعين مشرفاً قضائياً لأجل الإشراف على المبذر ومساعدته في بعض المعاملات المهمة. أما في القانون الإنكليزي، فلا يجوز الحجر على السفيه مطلقاً.
وكذلك اختلف الفقهاء في هذه المسألة. فقال أبو حنيفة بعدم جواز الحجر على السفيه "لأن الحجر تصرّفٌ على النفس، والنفس أعظم خطراً من المال"(1).
غير أن الرأي السائد عند الفقهاء المسلمين لم يقبل بهذا القول. فصاحبا أبي حنيفة، أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وباقي أئمة المذاهب، ومنها المذهب الجعفري، قالوا بأنه يحجر على السفيه، لو ظهر سفهه بعد بلوغه ورشده، وقد استندوا في ذلك إلى أدلة مأخوذة من مصادر الشرع الإسلامي المعروفة، من قرآن وسنّة وإجماع وقياس.
ولا شك في أن قولهم أصوب من القول الأول، إذ يجب أن لا ينظر إلى المبذر بحدّ ذاته، وإلى ما ينتج له من تضييق على الحرية كما لو كان يعيش منفرداً. بل ينبغي أن ينظر إليه كفرد من المجتمع، وأن ينظر إلى ما يحيط به من خطر الاستثمار من جانب من يتعامل معه. فمصلحة المبذر نفسه ومصلحة عائلته تستدعيان وجوب الحجر عليه، كما أن واجب الهيئة الاجتماعية أيضاً أن تحافظ على الضعفاء من أفرادها، لأن في المحافظة عليهم من استثمار أرادتهم الضعيفة محافظة على نفسهم ومالهم معاً.
معنى السفيه
السفيه معناه، لغةً، الجاهل والأحمق. أما في الشرع، فالسفيه، كما جاء في تعريف المجلة: "هو الذي يصرف ماله في غير موضعه ويبذر في مصارفه، ويضيّع أمواله ويتلفها بالإسراف. والذين لا يزالون يغفلون في أخذهم وإعطائهم ولم يعرفوا طريق تجارتهم وتمتعهم بحسب بلاهتهم وخلّو قلوبهم يعدّون أيضاً من السفهاء" (المادة 946).
ويستخلص من هذا التعريف، أن السفيه يشمل المبذر، والمسرف، والمغفل. فالتبذير هو صرف المال في غير موضعه، كشراء الكماليات قبل الضروريات والحاجيات. والإسراف هو صرف المال في موضعه ولكن بقدر زائد على ما ينبغي.
أو بعبارة الماوردي، التبذير هو الجهل بمواقع الحقوق، والإسراف هو الجهل بمقادير الحقوق.
وقد ألحق الفقهاء بذلك الغفلة، وهي عدم الاهتداء إلى التصرفات الرابحة بسبب البساطة والبلاهة، وذلك بطريق القياس لوجود العلة الواحدة، وهي عدم الرشد، أما مجرد البخل التأثر والانقياد لإرادة الغير، فلا يعد سفهاً، ومن ثم لا يكفي للحجر.
مما تقدم نرى أن تعريف السفيه تعريف واسع، يشمل كل من كانت عادته الإنفاق عن غير رشد بسبب ضعف إرادته، سواء أكان مبذراً أم مسرفاً أم أبلهَ مغفلاً.
فإذن، أن عدم الصلاح في المال هو سبب الحجر على السفيه. فعليه فان المجلة ومن أخذت عنهم من الأئمة، خلافاً للإمام الشافعي، لم يجوّزوا الحجر بسبب الفسق وعدم الصلاح في الدين. فقد ورد في المجلة أنه "لا يحجر على الفاسق بمجرد فسقه، ما لم يبذر ويسرف ماله" (المادة 963). فوفاقاً لهذا المبدأ، لا يعتبر لعب القمار بحد ذاته سبباً للحجر، إن لم يكن فيه تبذير أو إسراف أو غفلة، بالنسبة إلى حالة اللاعب وثروته المالية.
ومن أمثلة الحجر في هذا الباب حكم صدر عن المحكمة الشرعية السنيّة العليا في بيروت، قضى بموجبه بالحجر للسفه على رجل ثبت للمحكمة أنه لا يتعاطى عملاً ولا مهنة، وأنه باع عقاراً له وصرف ثمنه، وأنه بسيط يتصنع الأنوثة بترتيب شعره وثقب إذنيه وتغيير صوته وارتداء ملابس النساء. وتعليل الحجر هنا وجود السفه بأنواعه الثلاثة.
نوع الحجر وشروطه
|إن السفيه، خلافاً للمجنون والصغير، لا يعتبر بمقتضى المجلة محجوراً عليه لذاته، بل لابدّ من حكم القاضي بالحجر عليه، لأن السفه حالة شاذة يجب استثباتها قضاء، إذ أن الأصل في البالغ العاقل أن يكون رشيداً وكذلك لا يرتفع الحجر عنه إلا بحكم القاضي أيضاً. |وتكون الولاية على السفيه المحجور للقاضي، في المذهب الحنفي وعند الطائفة الدرزية. ويجوز لهذا طبعاً أن ينصب وصياً عنه كما في باقي الأحوال، وكما يفعل في معظم الأحيان. وكذلك هو الأمر في المذهب الجعفري إذا حصل السفه بعد البلوغ. أما إذا اتصل بالصغر، فتكون الولاية حينئذٍ كالولاية على الصغير(2).
وعلى كل حال، فالحجر على السفيه يكون عاماً. بمعنى أنه لو كان أحد الناس يغبن في بعض التصرفات خاصة، فأنه لا يحجر عليه حجراً خاصاً في ذلك النوع من التصرفات. بل يشمل الحجر جميع التصرفات المضرة".
ولم توجب المجلة حضور السفيه وقت الحجر، بالنظر للعجلة الناتجة عن خطر إتلاف المال. ولكن المجلة أوجبت إبلاغ السفيه قرار الحجر ونشره على الناس، ولا يعتبر نافذاً إلاّ من تاريخ النشر. (المادتان 961-962). ولكن في الواقع، تقضي أصول المحاكمات الجديدة بدعوته، وإلاّ كان له، وفاقاً للمبادئ العامة، حق الاعتراض على كل قرار يصدر بغيابه، وعلى كل يجوز له تقديم الدعوى الأصلية للطعن على مثل هذا القرار. ومن المستحسن في أحوال العجلة طلب التنفيذ المعجل. وهذا ما أجازه الاجتهاد اللبناني.
وأن المحكمة المختصة للحجر على السفيه هي المحكمة الشرعية أو المذهبية للطوائف الإسلامية، والمحكمة المدنية للطوائف الأخرى.
أثر الحجر
لا أثر للحجر على معاملات السفيه السابقة لحكم الحجر. فلذا قالت المجلة بأن "تصرفات السفيه التي تتعلق بالمعاملات القولية الواقعة بعد الحجر لا تصح، ولكن تصرفاته قبل الحجر كتصرفات سائر الناس" (المادة 991). وهذا ما نص عليه أيضاً قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية (المادة 124)، وما سار عليه القول المشهور في المذهب الجعفري. وهو قول مطابق للمبدأ الحديث، الذي يقول أن الأحكام المتعلقة بالأهلية إنشائية، لا إعلانية، كما جاء في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني (المادة 459)، وقانون تنظيم القضاء الشرعي (المادة 284). وكذلك تصح تصرفات السفيه قبل تبليغه قرار الحجر الصادر بغيابه، كما ذكرنا.
وقد نص القانون المدني المصري (المادة 115) والسوري (المادة 116) على أنه، استثناء من هذه القاعدة، يجوز إبطال التصرف السابق لتسجيل قرار الحجر إذا كان نتيجة استغلال أو تواطؤ. ويجوز ذلك أيضاً في لبنان وفاقاً للمبادئ العامة، لا سيما قواعد الغبن الفاحش والدعوى البولصية. وفوق ذلك نص قانون تنظيم القضاء الشرعي الجديد (المادة 389) على أنه يجوز للمحكمة الشرعية أن تقرر موقتاً تولي إدارة أموال المدعى عليه ريثما يبت بأمر الحجر عليه.
وقد أوجب نظام السجل العقاري تسجيل الأحكام القاضية بالحجر في صحيفة عقارات السفيه المدونة في السجل العقاري، وذلك حتى تكون سارية على من يتعاقد معه من الناس. أما تدوين إشارة الدعوى بطلب الحجر في الصحيفة العقارية، فقد اعتبر غير جائز، لأن هذه الدعوى ليست من الدعاوى العينية.
وأن السفيه المحجور عليه لا يكون عديم الأهلية في التصرفات والعقود. بل تكون أهليته ناقصة فقط. وهو، بمقتضى المجلة، يعتبر في المعاملات كالصغير المميّز (المادة 990). فإذن، تكون عقود السفيه معتبرة دون إجازة القاضي إذا كان فيها نفع محض، كقبول الهبة والهدية. وتكون غير معتبرة، ولو أذن بها القاضي، إذا كان فيها ضرر محض، كإعطاء الهبة مثلاً. وكذلك جاء في المجلة أنه لا يصح إقرار السفيه المحجور عليه بدين لآخر مطلقاً، لما في ذلك من مجرد الضرر وخطر التحايل على الشرع (المادة 994).
أما إذا أجرى السفيه المحجور عليه أحد التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، كالبيع والإجارة وما شاكل، فبما أنها تكون نافعة أو مضرة بحسب ما إذا كان أحد العوضين فيها زائداً أو ناقصاً بالقياس إلى العوض الآخر، فهي تنعقد بحسب المجلة موقوفة على إجازة القاضي. فإن رآها هذا مفيدة أجازها، وإلا فلا. فإن أجازها نفذت، وإن لم يجزها كانت باطلة واعتبرت كأنها لم تكن.
فعليه، قالت المجلة أنه ينفق من مال السفيه عليه وعلى من لزمته نفقتهم، بحسب العرف والمعتاد، من دون تبذير أو إسراف. وكذلك إذا استقرض السفيه المحجور عليه دراهم وصرفها في نفقته، فلا يجيز القاضي منها إلاّ ما صرف بالقدر المعروف، ويبطل الزائد عليه (المواد 992 و993 و996). أما حقوق الناس التي هي على السفيه، فتؤدي من ماله (المادة 995)، شرط أن تكون ثابتة بغير إقراره (المادة 994).
هذا في المعاملات المالية التي تقع تحت الحجر. أما المعاملات التي لا تقبل الفسخ، كالزواج والطلاق، فلا تأثير للحجر عليها مبدئياً في المذهب الحنفي الذي نحن بصدده. ولكن النتائج المالية لهذه العقود، كالمهر في الزواج، فأنها تقع تحت الحجر لدخولها في الولاية على المال. أي أنها تنعقد موقوفة على إجازة القاضي، وقابلة للإبطال في كل ما زاد على المعتاد.
المقارنة بين المعتوه والمغفل
إن المعتوه أي ناقص العقل، والمغفل الذي هو من نوع السفيه، شبيهان في المذهب الحنفي، من حيث درجة الحجر الواقع عليهما. إذ أنهما كليهما ناقصا الأهلية، وأهليتهما كأهلية الصغير المميّز.
ولكن الاثنين يختلفان(3)من وجهين آخرين، هما:
أولاًـ المعتوه أقل عقلاً من المغفل، ولذا اعتبر الأول محجوراً عليه لذاته، وترك أمر الحجر على الثاني إلى تقدير القاضي.
ثانياًـ أن الولاية على المغفل المحجور عليه هي للقاضي دائماً، كما لسائر السفهاء. أما المعتوه، فالولاية عليه كالولاية على الصغار، أي أنها لا تعود إلى القاضي إلا عند عدم وجود أحد من أصحاب الولاية، حسب الترتيب الذي بيّناه بخصوص الصغار.
الهوامش
ــــــــــــ
(1)البدائع ج7 ص170.
(2)المواد 984 و990 و997 من المجلة، والمواد 119-125 من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية، والمادتان 31و167 من الفصول الشرعية.
(3)في المذهب الحنفي، لا في المذهب الجعفري، كما مر معنا.
-----------------------------------------------------
المصدر : (المبادئ الشرعية والقانونية) في الحجر والنفقات والمواريث والوصّية
مبدأ الحجر
من المسائل الخلافية في القوانين مسألة الحجر على السفيه، أي المبذر ومن ألحق به. أيترك هذا حراً يتصرف في أمواله ومصالحه كما يشاء؟ أم يحجر عليه وتمنع تصرفاته المضرة به؟ في ذلك ذهبت الشرائع مذاهب شتى.
ففي القانونين الروماني والألماني (المادتان 6و1896) مثلاً، يحجر على المبذر وينصب عليه وصي أو قيّم، لينوب عنه في التصرّفات المضرة بمصلحته. وفي القانون المدني الفرنسي (المادة 513)، يجوز للمحكمة أن تعين مشرفاً قضائياً لأجل الإشراف على المبذر ومساعدته في بعض المعاملات المهمة. أما في القانون الإنكليزي، فلا يجوز الحجر على السفيه مطلقاً.
وكذلك اختلف الفقهاء في هذه المسألة. فقال أبو حنيفة بعدم جواز الحجر على السفيه "لأن الحجر تصرّفٌ على النفس، والنفس أعظم خطراً من المال"(1).
غير أن الرأي السائد عند الفقهاء المسلمين لم يقبل بهذا القول. فصاحبا أبي حنيفة، أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وباقي أئمة المذاهب، ومنها المذهب الجعفري، قالوا بأنه يحجر على السفيه، لو ظهر سفهه بعد بلوغه ورشده، وقد استندوا في ذلك إلى أدلة مأخوذة من مصادر الشرع الإسلامي المعروفة، من قرآن وسنّة وإجماع وقياس.
ولا شك في أن قولهم أصوب من القول الأول، إذ يجب أن لا ينظر إلى المبذر بحدّ ذاته، وإلى ما ينتج له من تضييق على الحرية كما لو كان يعيش منفرداً. بل ينبغي أن ينظر إليه كفرد من المجتمع، وأن ينظر إلى ما يحيط به من خطر الاستثمار من جانب من يتعامل معه. فمصلحة المبذر نفسه ومصلحة عائلته تستدعيان وجوب الحجر عليه، كما أن واجب الهيئة الاجتماعية أيضاً أن تحافظ على الضعفاء من أفرادها، لأن في المحافظة عليهم من استثمار أرادتهم الضعيفة محافظة على نفسهم ومالهم معاً.
معنى السفيه
السفيه معناه، لغةً، الجاهل والأحمق. أما في الشرع، فالسفيه، كما جاء في تعريف المجلة: "هو الذي يصرف ماله في غير موضعه ويبذر في مصارفه، ويضيّع أمواله ويتلفها بالإسراف. والذين لا يزالون يغفلون في أخذهم وإعطائهم ولم يعرفوا طريق تجارتهم وتمتعهم بحسب بلاهتهم وخلّو قلوبهم يعدّون أيضاً من السفهاء" (المادة 946).
ويستخلص من هذا التعريف، أن السفيه يشمل المبذر، والمسرف، والمغفل. فالتبذير هو صرف المال في غير موضعه، كشراء الكماليات قبل الضروريات والحاجيات. والإسراف هو صرف المال في موضعه ولكن بقدر زائد على ما ينبغي.
أو بعبارة الماوردي، التبذير هو الجهل بمواقع الحقوق، والإسراف هو الجهل بمقادير الحقوق.
وقد ألحق الفقهاء بذلك الغفلة، وهي عدم الاهتداء إلى التصرفات الرابحة بسبب البساطة والبلاهة، وذلك بطريق القياس لوجود العلة الواحدة، وهي عدم الرشد، أما مجرد البخل التأثر والانقياد لإرادة الغير، فلا يعد سفهاً، ومن ثم لا يكفي للحجر.
مما تقدم نرى أن تعريف السفيه تعريف واسع، يشمل كل من كانت عادته الإنفاق عن غير رشد بسبب ضعف إرادته، سواء أكان مبذراً أم مسرفاً أم أبلهَ مغفلاً.
فإذن، أن عدم الصلاح في المال هو سبب الحجر على السفيه. فعليه فان المجلة ومن أخذت عنهم من الأئمة، خلافاً للإمام الشافعي، لم يجوّزوا الحجر بسبب الفسق وعدم الصلاح في الدين. فقد ورد في المجلة أنه "لا يحجر على الفاسق بمجرد فسقه، ما لم يبذر ويسرف ماله" (المادة 963). فوفاقاً لهذا المبدأ، لا يعتبر لعب القمار بحد ذاته سبباً للحجر، إن لم يكن فيه تبذير أو إسراف أو غفلة، بالنسبة إلى حالة اللاعب وثروته المالية.
ومن أمثلة الحجر في هذا الباب حكم صدر عن المحكمة الشرعية السنيّة العليا في بيروت، قضى بموجبه بالحجر للسفه على رجل ثبت للمحكمة أنه لا يتعاطى عملاً ولا مهنة، وأنه باع عقاراً له وصرف ثمنه، وأنه بسيط يتصنع الأنوثة بترتيب شعره وثقب إذنيه وتغيير صوته وارتداء ملابس النساء. وتعليل الحجر هنا وجود السفه بأنواعه الثلاثة.
نوع الحجر وشروطه
|إن السفيه، خلافاً للمجنون والصغير، لا يعتبر بمقتضى المجلة محجوراً عليه لذاته، بل لابدّ من حكم القاضي بالحجر عليه، لأن السفه حالة شاذة يجب استثباتها قضاء، إذ أن الأصل في البالغ العاقل أن يكون رشيداً وكذلك لا يرتفع الحجر عنه إلا بحكم القاضي أيضاً. |وتكون الولاية على السفيه المحجور للقاضي، في المذهب الحنفي وعند الطائفة الدرزية. ويجوز لهذا طبعاً أن ينصب وصياً عنه كما في باقي الأحوال، وكما يفعل في معظم الأحيان. وكذلك هو الأمر في المذهب الجعفري إذا حصل السفه بعد البلوغ. أما إذا اتصل بالصغر، فتكون الولاية حينئذٍ كالولاية على الصغير(2).
وعلى كل حال، فالحجر على السفيه يكون عاماً. بمعنى أنه لو كان أحد الناس يغبن في بعض التصرفات خاصة، فأنه لا يحجر عليه حجراً خاصاً في ذلك النوع من التصرفات. بل يشمل الحجر جميع التصرفات المضرة".
ولم توجب المجلة حضور السفيه وقت الحجر، بالنظر للعجلة الناتجة عن خطر إتلاف المال. ولكن المجلة أوجبت إبلاغ السفيه قرار الحجر ونشره على الناس، ولا يعتبر نافذاً إلاّ من تاريخ النشر. (المادتان 961-962). ولكن في الواقع، تقضي أصول المحاكمات الجديدة بدعوته، وإلاّ كان له، وفاقاً للمبادئ العامة، حق الاعتراض على كل قرار يصدر بغيابه، وعلى كل يجوز له تقديم الدعوى الأصلية للطعن على مثل هذا القرار. ومن المستحسن في أحوال العجلة طلب التنفيذ المعجل. وهذا ما أجازه الاجتهاد اللبناني.
وأن المحكمة المختصة للحجر على السفيه هي المحكمة الشرعية أو المذهبية للطوائف الإسلامية، والمحكمة المدنية للطوائف الأخرى.
أثر الحجر
لا أثر للحجر على معاملات السفيه السابقة لحكم الحجر. فلذا قالت المجلة بأن "تصرفات السفيه التي تتعلق بالمعاملات القولية الواقعة بعد الحجر لا تصح، ولكن تصرفاته قبل الحجر كتصرفات سائر الناس" (المادة 991). وهذا ما نص عليه أيضاً قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية (المادة 124)، وما سار عليه القول المشهور في المذهب الجعفري. وهو قول مطابق للمبدأ الحديث، الذي يقول أن الأحكام المتعلقة بالأهلية إنشائية، لا إعلانية، كما جاء في قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني (المادة 459)، وقانون تنظيم القضاء الشرعي (المادة 284). وكذلك تصح تصرفات السفيه قبل تبليغه قرار الحجر الصادر بغيابه، كما ذكرنا.
وقد نص القانون المدني المصري (المادة 115) والسوري (المادة 116) على أنه، استثناء من هذه القاعدة، يجوز إبطال التصرف السابق لتسجيل قرار الحجر إذا كان نتيجة استغلال أو تواطؤ. ويجوز ذلك أيضاً في لبنان وفاقاً للمبادئ العامة، لا سيما قواعد الغبن الفاحش والدعوى البولصية. وفوق ذلك نص قانون تنظيم القضاء الشرعي الجديد (المادة 389) على أنه يجوز للمحكمة الشرعية أن تقرر موقتاً تولي إدارة أموال المدعى عليه ريثما يبت بأمر الحجر عليه.
وقد أوجب نظام السجل العقاري تسجيل الأحكام القاضية بالحجر في صحيفة عقارات السفيه المدونة في السجل العقاري، وذلك حتى تكون سارية على من يتعاقد معه من الناس. أما تدوين إشارة الدعوى بطلب الحجر في الصحيفة العقارية، فقد اعتبر غير جائز، لأن هذه الدعوى ليست من الدعاوى العينية.
وأن السفيه المحجور عليه لا يكون عديم الأهلية في التصرفات والعقود. بل تكون أهليته ناقصة فقط. وهو، بمقتضى المجلة، يعتبر في المعاملات كالصغير المميّز (المادة 990). فإذن، تكون عقود السفيه معتبرة دون إجازة القاضي إذا كان فيها نفع محض، كقبول الهبة والهدية. وتكون غير معتبرة، ولو أذن بها القاضي، إذا كان فيها ضرر محض، كإعطاء الهبة مثلاً. وكذلك جاء في المجلة أنه لا يصح إقرار السفيه المحجور عليه بدين لآخر مطلقاً، لما في ذلك من مجرد الضرر وخطر التحايل على الشرع (المادة 994).
أما إذا أجرى السفيه المحجور عليه أحد التصرفات الدائرة بين النفع والضرر، كالبيع والإجارة وما شاكل، فبما أنها تكون نافعة أو مضرة بحسب ما إذا كان أحد العوضين فيها زائداً أو ناقصاً بالقياس إلى العوض الآخر، فهي تنعقد بحسب المجلة موقوفة على إجازة القاضي. فإن رآها هذا مفيدة أجازها، وإلا فلا. فإن أجازها نفذت، وإن لم يجزها كانت باطلة واعتبرت كأنها لم تكن.
فعليه، قالت المجلة أنه ينفق من مال السفيه عليه وعلى من لزمته نفقتهم، بحسب العرف والمعتاد، من دون تبذير أو إسراف. وكذلك إذا استقرض السفيه المحجور عليه دراهم وصرفها في نفقته، فلا يجيز القاضي منها إلاّ ما صرف بالقدر المعروف، ويبطل الزائد عليه (المواد 992 و993 و996). أما حقوق الناس التي هي على السفيه، فتؤدي من ماله (المادة 995)، شرط أن تكون ثابتة بغير إقراره (المادة 994).
هذا في المعاملات المالية التي تقع تحت الحجر. أما المعاملات التي لا تقبل الفسخ، كالزواج والطلاق، فلا تأثير للحجر عليها مبدئياً في المذهب الحنفي الذي نحن بصدده. ولكن النتائج المالية لهذه العقود، كالمهر في الزواج، فأنها تقع تحت الحجر لدخولها في الولاية على المال. أي أنها تنعقد موقوفة على إجازة القاضي، وقابلة للإبطال في كل ما زاد على المعتاد.
المقارنة بين المعتوه والمغفل
إن المعتوه أي ناقص العقل، والمغفل الذي هو من نوع السفيه، شبيهان في المذهب الحنفي، من حيث درجة الحجر الواقع عليهما. إذ أنهما كليهما ناقصا الأهلية، وأهليتهما كأهلية الصغير المميّز.
ولكن الاثنين يختلفان(3)من وجهين آخرين، هما:
أولاًـ المعتوه أقل عقلاً من المغفل، ولذا اعتبر الأول محجوراً عليه لذاته، وترك أمر الحجر على الثاني إلى تقدير القاضي.
ثانياًـ أن الولاية على المغفل المحجور عليه هي للقاضي دائماً، كما لسائر السفهاء. أما المعتوه، فالولاية عليه كالولاية على الصغار، أي أنها لا تعود إلى القاضي إلا عند عدم وجود أحد من أصحاب الولاية، حسب الترتيب الذي بيّناه بخصوص الصغار.
الهوامش
ــــــــــــ
(1)البدائع ج7 ص170.
(2)المواد 984 و990 و997 من المجلة، والمواد 119-125 من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية، والمادتان 31و167 من الفصول الشرعية.
(3)في المذهب الحنفي، لا في المذهب الجعفري، كما مر معنا.
-----------------------------------------------------
المصدر : (المبادئ الشرعية والقانونية) في الحجر والنفقات والمواريث والوصّية