قلب هادف
05-02-2011, 09:40 PM
البصمة الوراثية وإثبـات النسب
أولاً - التحقق من النسب باستخدام البصمة الوراثية:
وإذا كان الإسلام قد أحاط النسب بتلك الحصانة حرصًا على الاستقرار في للمعاملات بين الناس، ولتشوفه في إثبات النسب.. إلا أن هذا الأمر قد يتعارض في ظاهره مع حقيقة أخرى إسلامية، وهي التشوف لإثبات الحقيقة، ووضع الحقائق في مكانها الصحيح، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [سورة البقرة، الآيتان: 159 - 160]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ" [سورة النساء، الآية: 94] وقال تعالى : " أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ " [سورة هود: الآية 17].
فكل تلك الآيات وغيرها كثير تأمر بالتبين والتبصر والتثبّت للحقائق فهل يجوز استنادًا إليها أن يتحقّق صاحب النسب المعروف من نسبه بعد نجاح البصمة الوراثية؟ فالأمر يجب التفريق فيه بين حالين هما:
أ - التحقق الفردي للنسب:
تكلّم الفقهاء عن هذه المسألة عرضاً في بابين من أبواب الفقه الإسلامي هما: القيافة
في كتب الجمهور)، ودعوى النسب (في كتب الحنفية)؛ حيث لا ترفع دعوى النسب إلا عند التنازع. كما اشترط الفقهاء القائلون بمشروعية القيافة ووجوب العمل بها: وقوع التنازع في الولد نفيًا أو إثباتًا، وعدم وجود دليل يقطع هذا التنازع، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان. وكما إذا وطئ رجلان امرأة بشبهة، وأمكن أن يكون الولد من أحدهما، وكل منهما ينفيه عن نفسه أو يثبته لنفسه، فإن الترجيح يكون بقول القيافة.
وبهذا يظهر أنه لا يجوز لمن عرف نسبه بوجه من الوجوه الشرعية أن يطلب تحقيق نسبه بالنظر إلى الشبه بالقيافة. ولكن الفقهاء منعوا التوجه للقيافة إلا عند التنازع، باعتبار القيافة أضعف أدلة إثبات النسب من الفراش والبينة والإقرار، فإذا وجد دليل من هذا دون معارض لم يكن هناك وجه للعمل بأضعف منه.
وإذا ثبت حقاً بأن "البصمة الوراثية" أقوى الأدلة على الإطلاق مع تحقق سبب النسبة من النكاح والاستيلاد.. فقد انتفت العلة التي من أجلها منع الفقهاء التوجه إلى الشبه بالقيافة. ومع ذلك.. فإن التحقق في أمر نسب مستقر، ولو كان بطرق علمية قطعية "كالبصمة الوراثية" فيه من التعريض بالآباء والأمهات وما يستتبعه من قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، خاصة إذا ثبت صدق النسب.
ب - التحقق الجماعي للنسب (المسح الشامل)
إن فتح هذا الملفّ بلاء عظيم، وباب فتن خطيرة لا يحمد عقباها، لما فيه من كشف وفضح المستور، والتشكك في ذمم وأعراض الناس بغير مبرر، ودمار لأواصر التراحم بين ذوي القربى، ونقض لما أبرمه الإسلام من استقرار. ولا يوجد أدنى شك في تحريم وتجريم مثل هذا العمل البشع.
ثانياً - إثبات النسب الشرعي بالبصمة الوراثية دليل قطعي:
لا خلاف بين الفقهاء في أن النسب الشرعي يثبت بالفراش الطبيعي والحقيقي، وهو الجماع الذي يكون منه الولد، بشرط أن يكون عن طريق مشروع بالنكاح وشبهته أو بالتسري وشبهته.
ولم يقل أحد من العلماء: إن الزوجة لو أتت بولد من غير الزوج، وقبل مضي ستة أشهر من الزواج أنه ينسب لهذا الزوج.
ولذلك نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الولد لصاحب الفراش، والفراش هو الجماع، والله تعالى يقول: "وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء: الآية 23] يقول ابن كثير: صلب الرجل أبيض غليظ، وترائب المرأة صفراء رقيقة، ولا يكون الولد إلا منهما.
وقد نص المالكية والحنابلة على أن المراد بالزوج الذي يلحق به النسب هو "الزوج الذي يلحق به الحمل، فيخرج المجبوب والصغير، أو لو أتت به كاملاً لأقل من ستة أشهر من العقد".
كما نصّ الشافعية على أن الزوج لو علم أن الحمل أو الولد ليس منه فاللعان في حقه واجب لنفي الولد، لأنه لو سكت لكان بسكوته مستلحقًا لمن ليس منه وهو ممتنع.
ونص الكمال ابن الهمام الحنفي على أنه لو ادّعى شخص نسب ولد الملاعنة قُبل منه وثبت النسب، لإمكان كونه وطأها بشبهة.
أقول: وإذا ثبت أن النسب في الإسلام يثبت لصاحب الماء في إطار العلاقة المشروعة (الزواج والتسري)، وهذا مما لا خلاف عليه.. إلا أن الأمر لا يزال محيرًا في كيفية إثبات هذه العلاقة الخاصة بين الزوجين والقائمة على الستر؛ حيث حذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من إفشاء تلك العلاقة فقال: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها".
ولما كان الأمر كذلك اضطررنا نحن المكلفين إلى إثبات تلك العلاقة بعلامة ظاهرة تدل في أغلب الأحوال عليها، حتى لا تخلو مسألة من حكم، ولا يعدم حق إثباتًا، فكان التوجه إلى الأدلة الظاهرة لإثبات الفراش وليس لإثبات النسب؛ لأن النسب يكون اتفاقًا بالفراش.
إن محل النزاع يتمحض في طريق إثبات الفراش الحقيقي الذي يكون منه الولد، وذلك بعد إجماع الفقهاء على أنه لا ينسب للزوج الولد الذي تأتي به زوجته من غيره، إذا تيقنا ذلك؛ كما لو أتت به قبل مضي ستة أشهر من بداية الزواج، أو كما لو أخبرنا الوحي بالنسب، كما ذكر الإمام الشيرازي.
والذي حمل الفقهاء على التوجّه إلى إثبات الفراش الحقيقي عن طريق مظنته بقيام حالة الزوجية هو طبيعة تلك العلاقة الخاصة بين الزوجين القائمة على السرية والحياء، وعند العجز عن الوصول إلى أصل الحقيقة.. فإنه من الطبيعي أن ننتقل إلى مجاز أقرب إلى تلك الحقيقة، وأقرب مجاز في مثل هذه الحال هو قيام حالة الزوجية بالعقد كما ذهب الحنفية، أو بالدخول كما ذهب الجمهور، فإن هذه الحالة تجيز شرعًا وعقلاً اتصال الزوجين ومعاشرتهما بما يأتي الله به الولد، فاعتبر الفقهاء هذه المظنة قائمة مقام الشهادة على الجماع أو الوطء، ولذلك رأينا الفقهاء يطلقون على هذه الحالة "دليل الفراش"، وكأنهم جعلوا مظنة الفراش فراشًا، وشاع هذا الاصطلاح -أقصد اصطلاح الفقهاء- بالفراش دليلاً للنسب، والحقيقة أنهم يقصدون في الواقع مظنة الفراش وليس الفراش، كما صرح بذلك الشيرازي، وقال: "إن أتت المرأة بولد يمكن أن يكون منه (أي الزوج) لحقه في الظاهر، لأنه مع وجود هذه الشروط (قيام الزوجية واجتماع الزوجين وهما ممن يولد لمثلهما) يمكن أن يكون الولد منه، وليس هنا ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به".
وجاءت البصمة الوراثية بالمشاهدة الحقيقية للصفات الوراثية القطعية، دونما كشف للعورة، أو مشاهدة لعملية الجماع بين الزوجين، ودونما تشكّك في ذمم الشهود أو المقرين أو القيافة؛ لأن الأمر يرجع إلى كشف آلي مطبوع مسجل عليه صورة واقعية حقيقية للصفات الوراثية للإنسان، والتي تتطابق في نصفها مع الأم الحقيقية، ونصفها الآخر مع الأب الطبيعي، فهل بعد ذلك يجوز أن نلتجئ لأدلة الظن ونترك دليل القطع؟
إن وسائل إثبات النسب ليست أمورًا تعبدية حتى نتحرج من إهمالها بعد ظهور نعمة الله – تعالى - بالبصمة الوراثية، ولن نهملها في الحقيقة؛ لأنها حيلة المقلّ، فإذا لم تتيسر الإمكانات لتعميم البصمة الوراثية فليس أمامنا بدّ من الاستمرار في تلك الوسائل الشرعية المعروفة.
وصدق الله –تعالى- حيث يقول: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ" [سورة فصلت: الآيتان 53، 54].
البصمة الوراثية وتوثيق النسب
أولاً - البصمة الوراثية ودعوى تصحيح النسب:
إن اعتماد "البصمة الوراثية" دليلاً قطعيًا للفراش الحقيقي ينشئ دعوى جديدة يمكن أن نطلق عليها "دعوى تصحيح النسب" لم يكن لها من قبل ذيوع، وإن كان أصلها في الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: "وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ" [سورة الأحزاب: الآيتان 4 - 5].
وأما السنة فما رواه البخاري ومسلم في قصة عتبة بن أبي وقاص الذي عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة منه، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: هو ابن أخي. فقام إليه عبد بن زمعة ، وقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. ولما رفع الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر"
فهذه قصة تفيد التنازع لتصحيح النسب من بعض الوجوه، وإن كان فيها معنى دعوى الاستلحاق.
وهكذا.. أوجدت لنا "البصمة الوراثية" نوعًا جديدًا من الدعاوى، وفتحت بابًا جديدًا للتنازع يجب أن نسلم بواقعه وهو ضريبة التقدم التقني والتفوق الطبي.
ثانياً - تسجيل البصمة الوراثية للزوجين والمولود:
إذا كان الفقهاء قد نصوا على استحباب اتخاذ السجلات لقيد الحقوق والأحكام، ونص بعضهم على وجوب ذلك إذا تعلق بحق ناقص الأهلية أو عديمها فمن الضروري استصدار قرار إداري بمنع استخراج شهادة بقيد ميلاد طفل إلا بعد إجراء "البصمة الوراثية" لترفق وتلصق بتلك الشهادة، على أن تكون بصمة الطفل مطابقة لبصمة الأبوين اللذين ثبتت علاقتهما الشرعية في وثيقة الزواج.
وهذا الأمر يستوجب باليقين أن تسجل البصمة الوراثية لكل من الزوجين بمجرد العقد وقبل الدخول، وتقرن تلك البصمة الخاصة بالزوجين معًا بقسيمة الزواج الرسمية، حتى إذا ما رزقهما الله بمولود توجّها لتسجيل اسمه مع بصمته الوراثية التي يجب أن تتطابق مع بصمة والديه الثابتة على قسيمة الزواج.
إن في مثل هذا القرار مسايرة للعصر وأخذًا بالحقائق العلمية، وله نتائج اجتماعية عظيمة؛ حيث سيضيق الخناق على المنحرفين والمزورين دونما طفرة أو هزة.
إن هذا هو أقل حق يمنح لطفل القرن الحادي والعشرين الميلادي، الخامس عشر الهجري، الذي ولد في ظل الثورة المعلوماتية.
إننا نخدع أنفسنا في أحيان كثيرة، كالحمل في حال غياب الزوج وسفره للعمل بالخارج، أو في حال مرضه الجنسي، والنساء اللاتي عرفن بسوء السلوك والانحراف الأخلاقي مستغلين ضعف الأزواج وغفلتهم، والنساء اللاتي تسرقن المواليد لعقمهن من أجل بقاء رباط الزوجية...
إن من حق الطفل أن يدفع عنه العار بانتمائه إلى والدين حقيقيين، كما أن من حقه أن ينتفع بتقنية عصره، كما أن من حق الزوج ألا ينسب إليه إلا من كان من صلبه.
ومن الضروري أيضًا استصدار قرار مثيل للأطفال اللقطاء ومجهولي النسب للبحث عن والديهم، أو لمعرفة أمهاتهم على الأقل إن كانوا أبناء خطيئة، وذلك لانتسابهم إليها شرعًا، وما يتعلّق في ذلك من أحكام شرعية كالميراث وبيان المحرمات والأرحام..، وبذلك تنعدم أو تقل ظاهرة انتشار دور الأيتام من اللقطاء الذين يشبون حاقدين كارهين للمجتمع، إن تنسيبهم للأم الحقيقية سيخفف بالتأكيد من حدة تلك الكراهية، بدلاً من فكرة الأم البديلة. وحتى تشارك الأم المخطئة في الإصلاح كما شاركت في الفاحشة، قال تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ" [سورة هود: الآية 114]
النسب : التعريف والثبوت
أولاً – تعريفات هامة:
أ – تعريف البصمة الوراثية:
في المؤتمر الذي عقدته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بعنوان: "مدى حُجِّية البصمة الوراثية في إثبات البنوة"؛ أكدت أوراق المؤتمر الذي شارك فيه عدد من أبرز العلماء والأطباء المتخصصين في هذا المجال أن كل إنسان يتفرد بنمط خاص في ترتيب جيناته ضمن كل خلية من خلايا جسده، ولا يشاركه فيها أي إنسان آخر في العالم، وهو ما يعرف بـ "البصمة الوراثية". وأكد أحد الباحثين أن هذه البصمة تتضمن البنية التفصيلية التي تدل على كل شخص بعينه، ولا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية، فضلاً عن تعرّف الشخصية وإثباتها.
ب – تعريف النسب:
النسب في اللغة يطلق على معان عدة؛ أهمها: القرابة والالتحاق. تقول: فلان يناسب فلانًا فهو نسيبه، أي قريبة. ويقال: نسبه في بني فلان، أي قرابته، فهو منهم. وتقول: انتسب إلى أبيه أي التحق. ويقال: نسب الشيء إلى فلان، أي عزاه إليه. وقيل: إن القرابة في النسب لا تكون إلا للآباء خاصة.
ولم يهتم الفقهاء الشرعيون بوضع تعريف للنسب اكتفاءً ببيان أسبابه الشرعية.
وتنحصر أسباب النسب في الإسلام في أصلين؛ هما: النكاح، والاستيلاد، لقوله تعالى: "وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء، الآية: 23]، فدل على أن الابن لا يكون ابنًا إلا أن يكون من الصلب، مع قوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ" [سورة المؤمنون، الآيات: 5- 7]، مما دل على تحريم العلاقة الخاصة مع النساء إلا في إطار هذين المذكورين، وأي نتاج بغيرهما لا يعتد به من جهة الرجل. أما من جهة المرأة فينسب إليها كل ما تلده، لأنه يجري على قاعدة الآية "أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء، الآية: 23]، وأيضًا قوله تعالى: "إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ" [سورة المجادلة، الآية: 2].
ثانياً - أدلة ثبوت النسب في الفقه الإسلامي:
النسب المستقر هو النسب الثابت بأحد أدلة ثبوته في الفقه الإسلامي، وأهمها: الفراش والبينة والإقرار والقيافة، ولكل من هذه الأدلة شروط مبسوطة في كتب الفروع، وأهم تلك الشروط ألا تخالف دليل العقل أو الشرع. فلو كان الزوج صغيرًا ابن سبع سنين، وأتت زوجته بولد فلا عبرة للفراش، وإذا أقرّ شخص بأن فلانًا ابنه وهو يقاربه في السن لا يقبل الإقرار.. وهكذا.
وإذا استقر النسب التحق المنسب بقرابته وتعلقت به سائر الأحكام الشرعية المرتبطة بهذا النسب، من تحديد المحارم، والأرحام، والولاية، والعقل، والإرث، والنفقة وغير ذلك. فكان استقرار النسب استقرارًا للمعاملات في المجتمع، ولذلك حصّنه الإسلام بما يمنع العبث به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة، النسب لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث".
ثالثاً - فض النزاع وحسم النسب آراء مذهبية:
الأصل في الطبيعة السوية عدم التنازع في النسب لخصوصية العلاقات الأسرية، ولكن قد تضطرّنا الظروف إلى مثل هذا النوع من النزاع.
ومن أسباب هذا النزاع: وجود التهمة القائمة على أساس ظاهري، ومن أمثلة ذلك: التهمة في نسب أسامة من أبيه زيد بن حارثة، لسواد بشرة الابن وبياض بشرة الأب. وكذلك اللقيط، إذا ادّعى نسبه رجلان فأكثر. ومنه: اختلاط المولودين في المستشفيات، ومنه: الوطء بشبهة من رجلين لامرأة واحدة فحملت من أحدهما لا بعينه. ومنه: تعارض بينتين متساويتين على ثبوت النسب أو نفيه. في مثل هذه الحال: كيف يمكن لنا فض النزاع وحسم النسب.. ولا دليل مرجح؟
لقد اختلف الفقهاء في الإجابة عن هذا السؤال، ويمكن إجمال أقوالهم في مذهبين:
المذهب الأول:
يرى هذا المذهب الأخذ بالشبه عن طريق القيافة، وهو مذهب الجمهور. فإن تنازع القيافة اختلف الجمهور على أقوال أربعة. فقد قيل: يحتكم للقرعة. وقيل: يخيّر الولد. وقيل: يلحق بهما جميعًا. وقيل: يضيع نسبه.
المذهب الثاني:
يرى عدم الأخذ بالقيافة، وإنما يتمّ الترجيح بأدلة الإثبات المعتادة، فإن تساوت ألحق الولد بالمتنازعين جميعًا، وهو مذهب الحنفية والهادوية.
أولاً - التحقق من النسب باستخدام البصمة الوراثية:
وإذا كان الإسلام قد أحاط النسب بتلك الحصانة حرصًا على الاستقرار في للمعاملات بين الناس، ولتشوفه في إثبات النسب.. إلا أن هذا الأمر قد يتعارض في ظاهره مع حقيقة أخرى إسلامية، وهي التشوف لإثبات الحقيقة، ووضع الحقائق في مكانها الصحيح، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" [سورة البقرة، الآيتان: 159 - 160]، وقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ" [سورة النساء، الآية: 94] وقال تعالى : " أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ " [سورة هود: الآية 17].
فكل تلك الآيات وغيرها كثير تأمر بالتبين والتبصر والتثبّت للحقائق فهل يجوز استنادًا إليها أن يتحقّق صاحب النسب المعروف من نسبه بعد نجاح البصمة الوراثية؟ فالأمر يجب التفريق فيه بين حالين هما:
أ - التحقق الفردي للنسب:
تكلّم الفقهاء عن هذه المسألة عرضاً في بابين من أبواب الفقه الإسلامي هما: القيافة
في كتب الجمهور)، ودعوى النسب (في كتب الحنفية)؛ حيث لا ترفع دعوى النسب إلا عند التنازع. كما اشترط الفقهاء القائلون بمشروعية القيافة ووجوب العمل بها: وقوع التنازع في الولد نفيًا أو إثباتًا، وعدم وجود دليل يقطع هذا التنازع، كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان. وكما إذا وطئ رجلان امرأة بشبهة، وأمكن أن يكون الولد من أحدهما، وكل منهما ينفيه عن نفسه أو يثبته لنفسه، فإن الترجيح يكون بقول القيافة.
وبهذا يظهر أنه لا يجوز لمن عرف نسبه بوجه من الوجوه الشرعية أن يطلب تحقيق نسبه بالنظر إلى الشبه بالقيافة. ولكن الفقهاء منعوا التوجه للقيافة إلا عند التنازع، باعتبار القيافة أضعف أدلة إثبات النسب من الفراش والبينة والإقرار، فإذا وجد دليل من هذا دون معارض لم يكن هناك وجه للعمل بأضعف منه.
وإذا ثبت حقاً بأن "البصمة الوراثية" أقوى الأدلة على الإطلاق مع تحقق سبب النسبة من النكاح والاستيلاد.. فقد انتفت العلة التي من أجلها منع الفقهاء التوجه إلى الشبه بالقيافة. ومع ذلك.. فإن التحقق في أمر نسب مستقر، ولو كان بطرق علمية قطعية "كالبصمة الوراثية" فيه من التعريض بالآباء والأمهات وما يستتبعه من قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، خاصة إذا ثبت صدق النسب.
ب - التحقق الجماعي للنسب (المسح الشامل)
إن فتح هذا الملفّ بلاء عظيم، وباب فتن خطيرة لا يحمد عقباها، لما فيه من كشف وفضح المستور، والتشكك في ذمم وأعراض الناس بغير مبرر، ودمار لأواصر التراحم بين ذوي القربى، ونقض لما أبرمه الإسلام من استقرار. ولا يوجد أدنى شك في تحريم وتجريم مثل هذا العمل البشع.
ثانياً - إثبات النسب الشرعي بالبصمة الوراثية دليل قطعي:
لا خلاف بين الفقهاء في أن النسب الشرعي يثبت بالفراش الطبيعي والحقيقي، وهو الجماع الذي يكون منه الولد، بشرط أن يكون عن طريق مشروع بالنكاح وشبهته أو بالتسري وشبهته.
ولم يقل أحد من العلماء: إن الزوجة لو أتت بولد من غير الزوج، وقبل مضي ستة أشهر من الزواج أنه ينسب لهذا الزوج.
ولذلك نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الولد لصاحب الفراش، والفراش هو الجماع، والله تعالى يقول: "وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء: الآية 23] يقول ابن كثير: صلب الرجل أبيض غليظ، وترائب المرأة صفراء رقيقة، ولا يكون الولد إلا منهما.
وقد نص المالكية والحنابلة على أن المراد بالزوج الذي يلحق به النسب هو "الزوج الذي يلحق به الحمل، فيخرج المجبوب والصغير، أو لو أتت به كاملاً لأقل من ستة أشهر من العقد".
كما نصّ الشافعية على أن الزوج لو علم أن الحمل أو الولد ليس منه فاللعان في حقه واجب لنفي الولد، لأنه لو سكت لكان بسكوته مستلحقًا لمن ليس منه وهو ممتنع.
ونص الكمال ابن الهمام الحنفي على أنه لو ادّعى شخص نسب ولد الملاعنة قُبل منه وثبت النسب، لإمكان كونه وطأها بشبهة.
أقول: وإذا ثبت أن النسب في الإسلام يثبت لصاحب الماء في إطار العلاقة المشروعة (الزواج والتسري)، وهذا مما لا خلاف عليه.. إلا أن الأمر لا يزال محيرًا في كيفية إثبات هذه العلاقة الخاصة بين الزوجين والقائمة على الستر؛ حيث حذّر النبي –صلى الله عليه وسلم- من إفشاء تلك العلاقة فقال: "إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها".
ولما كان الأمر كذلك اضطررنا نحن المكلفين إلى إثبات تلك العلاقة بعلامة ظاهرة تدل في أغلب الأحوال عليها، حتى لا تخلو مسألة من حكم، ولا يعدم حق إثباتًا، فكان التوجه إلى الأدلة الظاهرة لإثبات الفراش وليس لإثبات النسب؛ لأن النسب يكون اتفاقًا بالفراش.
إن محل النزاع يتمحض في طريق إثبات الفراش الحقيقي الذي يكون منه الولد، وذلك بعد إجماع الفقهاء على أنه لا ينسب للزوج الولد الذي تأتي به زوجته من غيره، إذا تيقنا ذلك؛ كما لو أتت به قبل مضي ستة أشهر من بداية الزواج، أو كما لو أخبرنا الوحي بالنسب، كما ذكر الإمام الشيرازي.
والذي حمل الفقهاء على التوجّه إلى إثبات الفراش الحقيقي عن طريق مظنته بقيام حالة الزوجية هو طبيعة تلك العلاقة الخاصة بين الزوجين القائمة على السرية والحياء، وعند العجز عن الوصول إلى أصل الحقيقة.. فإنه من الطبيعي أن ننتقل إلى مجاز أقرب إلى تلك الحقيقة، وأقرب مجاز في مثل هذه الحال هو قيام حالة الزوجية بالعقد كما ذهب الحنفية، أو بالدخول كما ذهب الجمهور، فإن هذه الحالة تجيز شرعًا وعقلاً اتصال الزوجين ومعاشرتهما بما يأتي الله به الولد، فاعتبر الفقهاء هذه المظنة قائمة مقام الشهادة على الجماع أو الوطء، ولذلك رأينا الفقهاء يطلقون على هذه الحالة "دليل الفراش"، وكأنهم جعلوا مظنة الفراش فراشًا، وشاع هذا الاصطلاح -أقصد اصطلاح الفقهاء- بالفراش دليلاً للنسب، والحقيقة أنهم يقصدون في الواقع مظنة الفراش وليس الفراش، كما صرح بذلك الشيرازي، وقال: "إن أتت المرأة بولد يمكن أن يكون منه (أي الزوج) لحقه في الظاهر، لأنه مع وجود هذه الشروط (قيام الزوجية واجتماع الزوجين وهما ممن يولد لمثلهما) يمكن أن يكون الولد منه، وليس هنا ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به".
وجاءت البصمة الوراثية بالمشاهدة الحقيقية للصفات الوراثية القطعية، دونما كشف للعورة، أو مشاهدة لعملية الجماع بين الزوجين، ودونما تشكّك في ذمم الشهود أو المقرين أو القيافة؛ لأن الأمر يرجع إلى كشف آلي مطبوع مسجل عليه صورة واقعية حقيقية للصفات الوراثية للإنسان، والتي تتطابق في نصفها مع الأم الحقيقية، ونصفها الآخر مع الأب الطبيعي، فهل بعد ذلك يجوز أن نلتجئ لأدلة الظن ونترك دليل القطع؟
إن وسائل إثبات النسب ليست أمورًا تعبدية حتى نتحرج من إهمالها بعد ظهور نعمة الله – تعالى - بالبصمة الوراثية، ولن نهملها في الحقيقة؛ لأنها حيلة المقلّ، فإذا لم تتيسر الإمكانات لتعميم البصمة الوراثية فليس أمامنا بدّ من الاستمرار في تلك الوسائل الشرعية المعروفة.
وصدق الله –تعالى- حيث يقول: "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ" [سورة فصلت: الآيتان 53، 54].
البصمة الوراثية وتوثيق النسب
أولاً - البصمة الوراثية ودعوى تصحيح النسب:
إن اعتماد "البصمة الوراثية" دليلاً قطعيًا للفراش الحقيقي ينشئ دعوى جديدة يمكن أن نطلق عليها "دعوى تصحيح النسب" لم يكن لها من قبل ذيوع، وإن كان أصلها في الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: "وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ* ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ" [سورة الأحزاب: الآيتان 4 - 5].
وأما السنة فما رواه البخاري ومسلم في قصة عتبة بن أبي وقاص الذي عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة منه، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: هو ابن أخي. فقام إليه عبد بن زمعة ، وقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه. ولما رفع الأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر"
فهذه قصة تفيد التنازع لتصحيح النسب من بعض الوجوه، وإن كان فيها معنى دعوى الاستلحاق.
وهكذا.. أوجدت لنا "البصمة الوراثية" نوعًا جديدًا من الدعاوى، وفتحت بابًا جديدًا للتنازع يجب أن نسلم بواقعه وهو ضريبة التقدم التقني والتفوق الطبي.
ثانياً - تسجيل البصمة الوراثية للزوجين والمولود:
إذا كان الفقهاء قد نصوا على استحباب اتخاذ السجلات لقيد الحقوق والأحكام، ونص بعضهم على وجوب ذلك إذا تعلق بحق ناقص الأهلية أو عديمها فمن الضروري استصدار قرار إداري بمنع استخراج شهادة بقيد ميلاد طفل إلا بعد إجراء "البصمة الوراثية" لترفق وتلصق بتلك الشهادة، على أن تكون بصمة الطفل مطابقة لبصمة الأبوين اللذين ثبتت علاقتهما الشرعية في وثيقة الزواج.
وهذا الأمر يستوجب باليقين أن تسجل البصمة الوراثية لكل من الزوجين بمجرد العقد وقبل الدخول، وتقرن تلك البصمة الخاصة بالزوجين معًا بقسيمة الزواج الرسمية، حتى إذا ما رزقهما الله بمولود توجّها لتسجيل اسمه مع بصمته الوراثية التي يجب أن تتطابق مع بصمة والديه الثابتة على قسيمة الزواج.
إن في مثل هذا القرار مسايرة للعصر وأخذًا بالحقائق العلمية، وله نتائج اجتماعية عظيمة؛ حيث سيضيق الخناق على المنحرفين والمزورين دونما طفرة أو هزة.
إن هذا هو أقل حق يمنح لطفل القرن الحادي والعشرين الميلادي، الخامس عشر الهجري، الذي ولد في ظل الثورة المعلوماتية.
إننا نخدع أنفسنا في أحيان كثيرة، كالحمل في حال غياب الزوج وسفره للعمل بالخارج، أو في حال مرضه الجنسي، والنساء اللاتي عرفن بسوء السلوك والانحراف الأخلاقي مستغلين ضعف الأزواج وغفلتهم، والنساء اللاتي تسرقن المواليد لعقمهن من أجل بقاء رباط الزوجية...
إن من حق الطفل أن يدفع عنه العار بانتمائه إلى والدين حقيقيين، كما أن من حقه أن ينتفع بتقنية عصره، كما أن من حق الزوج ألا ينسب إليه إلا من كان من صلبه.
ومن الضروري أيضًا استصدار قرار مثيل للأطفال اللقطاء ومجهولي النسب للبحث عن والديهم، أو لمعرفة أمهاتهم على الأقل إن كانوا أبناء خطيئة، وذلك لانتسابهم إليها شرعًا، وما يتعلّق في ذلك من أحكام شرعية كالميراث وبيان المحرمات والأرحام..، وبذلك تنعدم أو تقل ظاهرة انتشار دور الأيتام من اللقطاء الذين يشبون حاقدين كارهين للمجتمع، إن تنسيبهم للأم الحقيقية سيخفف بالتأكيد من حدة تلك الكراهية، بدلاً من فكرة الأم البديلة. وحتى تشارك الأم المخطئة في الإصلاح كما شاركت في الفاحشة، قال تعالى: "وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ" [سورة هود: الآية 114]
النسب : التعريف والثبوت
أولاً – تعريفات هامة:
أ – تعريف البصمة الوراثية:
في المؤتمر الذي عقدته المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بعنوان: "مدى حُجِّية البصمة الوراثية في إثبات البنوة"؛ أكدت أوراق المؤتمر الذي شارك فيه عدد من أبرز العلماء والأطباء المتخصصين في هذا المجال أن كل إنسان يتفرد بنمط خاص في ترتيب جيناته ضمن كل خلية من خلايا جسده، ولا يشاركه فيها أي إنسان آخر في العالم، وهو ما يعرف بـ "البصمة الوراثية". وأكد أحد الباحثين أن هذه البصمة تتضمن البنية التفصيلية التي تدل على كل شخص بعينه، ولا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية، فضلاً عن تعرّف الشخصية وإثباتها.
ب – تعريف النسب:
النسب في اللغة يطلق على معان عدة؛ أهمها: القرابة والالتحاق. تقول: فلان يناسب فلانًا فهو نسيبه، أي قريبة. ويقال: نسبه في بني فلان، أي قرابته، فهو منهم. وتقول: انتسب إلى أبيه أي التحق. ويقال: نسب الشيء إلى فلان، أي عزاه إليه. وقيل: إن القرابة في النسب لا تكون إلا للآباء خاصة.
ولم يهتم الفقهاء الشرعيون بوضع تعريف للنسب اكتفاءً ببيان أسبابه الشرعية.
وتنحصر أسباب النسب في الإسلام في أصلين؛ هما: النكاح، والاستيلاد، لقوله تعالى: "وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء، الآية: 23]، فدل على أن الابن لا يكون ابنًا إلا أن يكون من الصلب، مع قوله تعالى: "وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ" [سورة المؤمنون، الآيات: 5- 7]، مما دل على تحريم العلاقة الخاصة مع النساء إلا في إطار هذين المذكورين، وأي نتاج بغيرهما لا يعتد به من جهة الرجل. أما من جهة المرأة فينسب إليها كل ما تلده، لأنه يجري على قاعدة الآية "أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ" [سورة النساء، الآية: 23]، وأيضًا قوله تعالى: "إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ" [سورة المجادلة، الآية: 2].
ثانياً - أدلة ثبوت النسب في الفقه الإسلامي:
النسب المستقر هو النسب الثابت بأحد أدلة ثبوته في الفقه الإسلامي، وأهمها: الفراش والبينة والإقرار والقيافة، ولكل من هذه الأدلة شروط مبسوطة في كتب الفروع، وأهم تلك الشروط ألا تخالف دليل العقل أو الشرع. فلو كان الزوج صغيرًا ابن سبع سنين، وأتت زوجته بولد فلا عبرة للفراش، وإذا أقرّ شخص بأن فلانًا ابنه وهو يقاربه في السن لا يقبل الإقرار.. وهكذا.
وإذا استقر النسب التحق المنسب بقرابته وتعلقت به سائر الأحكام الشرعية المرتبطة بهذا النسب، من تحديد المحارم، والأرحام، والولاية، والعقل، والإرث، والنفقة وغير ذلك. فكان استقرار النسب استقرارًا للمعاملات في المجتمع، ولذلك حصّنه الإسلام بما يمنع العبث به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة، النسب لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث".
ثالثاً - فض النزاع وحسم النسب آراء مذهبية:
الأصل في الطبيعة السوية عدم التنازع في النسب لخصوصية العلاقات الأسرية، ولكن قد تضطرّنا الظروف إلى مثل هذا النوع من النزاع.
ومن أسباب هذا النزاع: وجود التهمة القائمة على أساس ظاهري، ومن أمثلة ذلك: التهمة في نسب أسامة من أبيه زيد بن حارثة، لسواد بشرة الابن وبياض بشرة الأب. وكذلك اللقيط، إذا ادّعى نسبه رجلان فأكثر. ومنه: اختلاط المولودين في المستشفيات، ومنه: الوطء بشبهة من رجلين لامرأة واحدة فحملت من أحدهما لا بعينه. ومنه: تعارض بينتين متساويتين على ثبوت النسب أو نفيه. في مثل هذه الحال: كيف يمكن لنا فض النزاع وحسم النسب.. ولا دليل مرجح؟
لقد اختلف الفقهاء في الإجابة عن هذا السؤال، ويمكن إجمال أقوالهم في مذهبين:
المذهب الأول:
يرى هذا المذهب الأخذ بالشبه عن طريق القيافة، وهو مذهب الجمهور. فإن تنازع القيافة اختلف الجمهور على أقوال أربعة. فقد قيل: يحتكم للقرعة. وقيل: يخيّر الولد. وقيل: يلحق بهما جميعًا. وقيل: يضيع نسبه.
المذهب الثاني:
يرى عدم الأخذ بالقيافة، وإنما يتمّ الترجيح بأدلة الإثبات المعتادة، فإن تساوت ألحق الولد بالمتنازعين جميعًا، وهو مذهب الحنفية والهادوية.