محمد ابراهيم البادي
05-02-2011, 03:25 AM
نزول القرآن، نزول واحد أم تنزلات؟
نظرات جديدة في علوم القرآن
نزول القرآن الكريم
بين القائلين بتعدد التنزلات والنافين لها
أولاً- معنى نزول القرآن:
1- النزول في اللغة: قال ابن فارس -رحمه الله-: "النون والزاء واللام كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه". وكلام ابن فارس هذا يعني أنه ليس للمادة إلا هذا المعنى، وما ساقه كُتَّاب علوم القرآن من أن للمادة معنى ثانياً، وهو الحلول فليس هو معنى آخر للكلمة؛ بل هو –على ما أراه- يعود إلى هذه المادة، ولازم من لوازمها. وما قاله ابن فارس أكَّده الراغب في المفردات، والسمين في عمدة الحفاظ- رحمهم الله جميعاً-.
2- اختلاف العلماء في معنى إنزال القرآن: لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- رسالة قيمة في معنى نزول القرآن الكريم؛ بيَّن فيها أنَّ معنى النزول في كتاب الله عز وجل يتفق مع المعنى اللغوي الحقيقي، وأنَّه لا مجاز في استعماله مع القرآن، وهو ما ينسجم مع رأيه أن لا مجاز في كتاب الله عز وجل. قال -رحمه الله-: "ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا وفيه معنى النزول المعروف، وهذا هو اللائق به، فإنه (أي القرآن) نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب نزولاً إلا بهذا المعنى، ولو أُريدَ غيرُ هذا لكان خطاباً بغير لغتها، ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز...". ويؤيد رأي ابن تيمية أن نزول القرآن نزول حقيقي وليس بمجاز تلكم الآياتُ التي جاء فيها توكيد لفظ النزول بالمصدر، كما في قوله عز وجل: "وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا"[ الإسراء:106]، وقوله سبحانه وتعالى:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا"[ الإنسان:23]. قال النحاس -رحمه الله-: "أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً". ولا شك أن رأي ابن تيمية أيضاً مبناه على رأي السلف في العقيدة، والذين يثبتون صفة العلو لله عز وجل؛ لذلك نجد ثلة من أهل العلم قد تابعوه على قوله. لكن السيوطي -رحمه الله- في الإتقان أورد عن الأصفهاني أنَّ أهل السنة والجماعة اتفقوا على أن كلام الله منزل، واختلفوا في معنى الإنزال. ثم أورد عنه أقوالاً مبناها على القول بتأويل معنى النزول؛ لكون المعنى اللغوي لكلمة النزول لا ينسجم مع ما يسمى بعقيدة الخلف التي تؤول صفة العلو لله عز وجل، وهذا هو رأي معظم الكاتبين في علوم القرآن، كالزرقاني وغيره من المتأخرين. ولقد وجدت لأحد المفسرين المتأخرين وهو الطاهر بن عاشور -رحمه الله- كلاماً نفيساً حول معنى النزول يجعلنا نرى الصورة بشكل أشمل، ونعلم أنَّ الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي؛ حيث قال -رحمه الله-: "والإنزال جعل الشيء نازلاً، والنزول الانتقال من علو إلى سفل، وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معانٍ راجعة إلى تشبيه عملٍ بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية؛ كما في قوله تعالى: "قد أنزلنا عليكم لباساً"، وقوله: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"؛ لأنَّ خلقَ الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه. وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله سبحانه وتعالى إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول الملك مُبَلِغه الذي يتصل بهذا العالم نازلاً من العالم العلوي؛ قال تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك" فإنَّ الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه. وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تلقى إلى النبي بشيءٍ وصل من مكانٍ عال، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سمعه الرسول كالقرآن، وكما أنزل إلى موسى عليه السلام، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم عليه السلام فلا تسمى إنزالاً". وعلى كل حال ليس هناك كبير فائدة أو أثر من وراء هذا الاختلاف؛ لذلك نكتفي بهذا العرض الموجز، وإن كان الأمر يطول الحديث فيه لو أنا سمحنا بذلك. لكن ينبغي أن أشير إلى ما نعتقده من أن السبب وراء هذا الخلاف هو إقحام العقل في الدائرة التي ينبغي أن يقف عندها ولا يتجاوزها.
ثانياً- هل للقرآن الكريم تنزلات:
العلماء في هذه المسألة فريقان؛ فريق رأى أنَّ القرآن له تنزلات عدّة، وفريق عارض هذا القول فقال: إن للقرآن تنزلاً واحداً، هو التنزل المباشر من الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل عليه السلام.
1- القول بالتنزلات: نظر الفريق الأول -الذين قالوا بالتنزلات- في الآيات التي دلَّت على أنَّ القرآن نزل في رمضان، وفي ليلة القدر والليلة المباركة؛ كما في قوله عز وجل: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"[البقرة:185]، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"[القدر:1]، وقوله سبحانه وتعالى: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة"[الدخان:3]، ففهموا منها أنها دلت على تنزل كامل للقرآن في هذه الليلة المباركة من ليالي رمضان، وهي ليلة القدر. ولكن كيف يمكن أن يكون القرآن نزل في ليلة واحدة، ومن المعلوم ضرورةً أنه نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً طوال الفترة التي قضاها بين الناس منذ بعثته إلى وفاته. فحاولوا أن يوفّقوا بين ذلك الفهم الأولي للآيات الثلاث السابقة، وبين هذه الحقيقة المجمع عليها، فوجدوا لذلك تفسيراً من خلال نظرهم في قوله سبحانه وتعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:22]، ومن خلال أثر مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يفيد أنَّ القرآن مَرَّ في نزوله بمراحل. فقرر البعض أنَّ هناك تنزلات ثلاثة، أولها تنزل للقرآنِ إلى اللوح المحفوظ، واستشهدوا بقوله تعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هوقرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22]. وهنا لا بد أن ننبه إلى أن الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان وغيرهما لم يستعملوا لفظ النزول عند حديثهم عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وإنما ذكروا التنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ومن ثَمَّ من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل الزرقاني هو أول من وجدته يعبر بالتنزل الأول عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وتبعه بعض من جاء بعده كالشيخ الذهبي -رحمه الله-. أما التنزل الثاني -أو هو التنزل الأول عند من يرى أنَّ هناك تنزلان- فكان هذا التنزل من اللوح المحفوظ إلى مكان يُسمَى بيت العزة في السماء الدنيا، وقالوا: إنَّ هذا التنزل كان في رمضان في ليلة القدر الليلة المباركة، وهو ما دلت عليه الآيات الثلاث قوله عز وجل:"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"، وقوله عز وجل: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة". وقال بعض هؤلاء إنَّ هذا التنزل استغرق أيضاً سنوات في ليال قدر عدة، ولم يسوقوا على ذلك دليلاً مقبولاً. أما التنزل الثالث -أو الثاني عند من يرى أن هناك تنزلان- فقد كان من بيت العزة في السماء الدنيا إلى الأرض على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم حسب الأحوال والمناسبات. ودليل هذا الفريق هو فهمهم لما سبق من الآيات الثلاث على النحو الذي أوردناه. وقد رد الفريق الآخر على هذا الاستدلال بأن المقصود بنزول القرآن في رمضان أو الليلة المباركة أو ليلة القدر في تلك الآيات هو أن ابتداء نزول القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الوقت، وليس المقصود نزوله كله، وخاصة أن العلماء مجمعون على أن لفظ القرآن يطلق على القرآن كله، أو على جزء منه. وفسروا آيتي الزخرف "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4] والبروج "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22] والتي تدل على وجود القرآن في اللوح المحفوظ بأنها تبين أن القرآن الكريم حاله كحال أي حدث أو أمر أو شيء قد يحدث في هذا الكون ذكر الله عز وجل خبره وتفاصيله في كتاب الكون اللوح المحفوظ، فكما هو معلوم فإنَّ كل شيء مسطور في اللوح المحفوظ. واستدل الفريق الأول أيضاً بالأثر الوارد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة؛ لأني أحسب أنَّ هذا الأثر لو لم يكن موجوداً ما وقع هذا الخلاف. وكنت -ولله المنة والفضل- قد جمعت الروايات الواردة لهذا الأثر من مظانها، وقمت بدراسة أسانيدها ومتونها، ووصلت إلى مجموعة من النتائج.
ملاحظات حول روايات هذا الأثر:
1- أنها كلها موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-: يلاحظ أن كل الروايات موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-، والمسألة من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بما جاء في القرآن الكريم، أو السنة المرفوعة المقبولة. هذا إضافة إلى أننا لا نستطيع الجزم بأن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قد أخذ هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنه قد يكون فهماً له رضي الله عنه فهمه من النصوص، أو فهماً من بعض الرواة لكلام ابن عباس على خلاف ما أراد هو رضي الله عنه، وهذا الذي أميل إليه لاختلاف ألفاظ الروايات كما يلاحظ الناظر فيها -والله أعلم-
2- عدم ورود مثل هذا الخبر عن غيرابن عباس -رضي الله عنهما- من الصحابة رضي الله عنهم: لم أجد هذا الخبر أو معناه وارداً عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يوهن أن تكون الرواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف لأمر مثل هذا متعلق بكتاب الله عز وجل لا يرويه إلا صحابي واحد، ومن صغار الصحابة أيضاً.
3- ذكر بيت العزة: بيت العزة هذا المكان المذكور في بعض روايات هذا الأثر لم يذكر لا في القرآن، ولا في السنَّة حسب اطلاعي؛ لذلك فهو أمر غيبي نحتاج حتى نثبته إلى دليل مقبول أيضاً، وهذا أمر غير متوافر. والقول بأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه يعد في منزلة المرفوع إذا عرف عنه أنه لا يأخذ بالإسرائيليات من المسائل غير المتفق عليها بين أهل العلم، لذلك في النفس منه شيء؛ خاصة إذا علمت أن قول الصحابي مختلف في حجيته في فروع الأحكام، فكيف في العقائد والتصورات؟!.
4- ذكر مواقع النجوم في بعض روايات الأثر: مواقع النجوم المذكورة في سورة النجم في قوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم" لا يقصد بها أوقات نزول القرآن الكريم، ولا مواقع نزوله؛ كما جاء في بعض روايات أثر ابن عباس؛ بل المقصود بها مواقع النجوم التي نشاهدها في السماء، وفي القسم بها دليل على عظم شأنها. وهذا التفسير أستطيع أن أجزم أن ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- مبرأٌ منه، لأنه مخالف للغة، وما صح من روايات في ذلك حتى عن ابن عباس، ومعلوم أن ابن عباس هو في التفسير واللغة. كذلك الرواية في إسنادها راوٍ متروك الحديث، أي أنها واهية لا تستحق النظر فيها.
5- الاختلاف بين روايات الأثر: الاختلاف بين روايات الأثر من حيث تحديد بعض الروايات مدة نزول القرآن في عشرين سنة، ومن المعلوم أن مدة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثة وعشرين عاماً، وهو المروي عن ابن عباس نفسه في الصحاح، فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَسِنِينَ ثُمَّ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم).
وهذا يجعل الشك يتطرق إلى الرواية.
ملحوظات على هذا القول نفسه: إن الأخذ بهذا القول يدفع للقول بأن جبريل عليه السلام لم يأخذ القرآن عن الله عز وجل مباشرة، خلافاً لما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، وهو ما يفتح مجالاً لبعض أصحاب الآراء المنحرفة لدس آرائهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكذلك قد أخبر -أي الله عز وجل- في غير موضع من القرآن أنَّ القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه... قال تعالى: "أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق"، وقال تعالى: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق"... فبين أنَّ جبريل نزّله من الله سبحانه وتعالى لا من هواء، ولا من لوح، ولا من غير ذلك...، فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله عز وجل، مكذب لكتاب الله عز وجل، متبع لغير سبيل المؤمنين".
2- القول بالتنزل الواحد: أما الفريق الثاني من أهل العلم فقد قال بالتنزل الواحد، أي أنَّ جبريل عليه السلام أخذ القرآن مباشرة من عند الله عز وجل، ونزل به على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم استمر نزوله بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة. وينسب هذا القول إلى الشعبي، ومحمد بن إسحاق-رحمهما الله- من علماء السلف، وقال به ابن العربي والنسفي -رحمهما الله- من العلماء المتقدمين. ومن المتأخرين قال به الشيخ محمد عبده في تفسيره لجزء عم ، وتلميذه محمد رشيد رضا، والدكتور صبحي الصالح في مباحثه، والشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمهم الله جميعاً- وأستاذنا الدكتور فضل حسن عباس-حفظه الله-.
3- القول المختار: عند النظر في أدلة الفريقين يجد الباحث نفسه تميل إلى الأخذ بالقول الثاني، ولعل أستاذنا د.فضل حسن عباس -حفظه الله- قد كفانا كثرة الكلام حول اختيار هذا القول؛ حيث قال-حفظه الله-: "وإنما اخترت هذا القول لما يلي: أولاً: لأنَّ القول بأنَّ القرآن الكريم أُنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان، لم يصل إلينا من كتاب أو سنة صحيحة، وإنما وردت آثار موقوفة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي تحتاج إلى تمحيص من حيث أسانيدها. والقول بأن مثل هذا لا يمكن أن يكون رأياً لابن عبّاس غير مسلّم، فقد يكون ابن عباس فهم الآية هذا الفهم إن صحت هذه الأقوال عنه. ثانياً: يلزم على القول بأن القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، عدم نزوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في رمضان؛ لأنهم يرون أن الذي ذكرته الآيات في حديثها عن نزول القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحدة إلى السماء الدنيا. وهذا غير مُسلّم به فإن الذي أجمعت عليه الأمة إجماعاً مستنداً إلى السنة الصحيحة، وإلى الكتاب الكريم هو أن القرآن نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان. ثالثاً: إن المتدبر للآية الكريمة يجزم بما لا يحتمل شكاً بأنها تتحدث عن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلنتدبر هذه الآية الكريمة: "شهر رمضان الذي أُنزلَ فيه القرآنُ هدىً للنَّاس وبينات من الهدى والفرقان"[البقرة: 185]، فلو كان المقصود نزوله إلى سماء الدنيا لم يكن هناك كبير فائدة في قوله تعالى: "هدىً للناس" إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلب وتستريح إليه النفس هو أنَّ القرآن نزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى للناس. رابعاً: إنَّ الله تبارك وتعالى يَمُنُّ علينا بالهداية بأن كرّمنا بهذا القرآن الكريم "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان". وهذه المنّة إنما تتحقق بإنزال القرآن لنتعظ منه ونعتبر، وهذا أمر غير متحقق بنزوله إلى سماء الدنيا، يقول السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنَّ المعروف باليقين أنَّ القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان، وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر، أي الشرف، والليلة المباركة، كما في آيات أخرى، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أن لفظ القرآن يُطلق على هذا الكتاب كله، ويُطلق على بعضه. وقد ظنَّ الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة، ورأوا في حل الإشكال أن القرآن نزل ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافاً لظاهر الآيات، ولا تظهر المنة علينا، ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا؛ لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان. كما قالوا إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان".
3- الحكمة من إنزاله جملة إلى السماء عند من يرى ذلك: القائلون بتعدد التنزلات يرون أن لإنزال القرآن جملة إلى السماء الدنيا فوائد منها: الفائدة الأولى: تفخيم شأن القرآن وشأن من سينزل إليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليها لننزله عليها، وهي الأمة الإسـلامية، وفي هذا تـنويه بشأن المنزَل، والمنزَل عليه، والمنزَل إليهم وهم بنو آدم، ففيه تعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ثم إن وضعه في مكان يسمى بيت العزة يدل على إعزازه وتكريمه. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين.
الفائدة الثانية: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية السابقة، وذلك بإنزاله مرتين، مرة جملة، ومرة مفرقاً، بخلاف الكتب السماوية السابقة، فقد كانت تنزل جملةً مرة واحدة، وبذلك شارك القرآن الكتب السماوية في الأولى، وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء السابقين. ولعل الناظر في هذه الحكم يزداد قناعة بضعف القول بتعدد النزول؛ لأنه لا حكمة من تلك التنزلات التي ذكروها، وما ذكروه إنما هو إنشاء وكلام لا تجد له مستنداً من العلم، فمبناه على الظن غير المستند إلى دليل، وأساس هذا الظن هو محاولة المفاضلة بين القرآن وغيره من الكتب؛ وكأنه يلحق القرآن نقيصة إذا لم ينزل جملة؛ هذا إن صحّ أن غيره نزل جملة. إن القرآن هو خير الكتب، ويكفي لخيريته أنه حُفِظ إلى قيام الساعة.
نظرات جديدة في علوم القرآن
نزول القرآن الكريم
بين القائلين بتعدد التنزلات والنافين لها
أولاً- معنى نزول القرآن:
1- النزول في اللغة: قال ابن فارس -رحمه الله-: "النون والزاء واللام كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه". وكلام ابن فارس هذا يعني أنه ليس للمادة إلا هذا المعنى، وما ساقه كُتَّاب علوم القرآن من أن للمادة معنى ثانياً، وهو الحلول فليس هو معنى آخر للكلمة؛ بل هو –على ما أراه- يعود إلى هذه المادة، ولازم من لوازمها. وما قاله ابن فارس أكَّده الراغب في المفردات، والسمين في عمدة الحفاظ- رحمهم الله جميعاً-.
2- اختلاف العلماء في معنى إنزال القرآن: لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- رسالة قيمة في معنى نزول القرآن الكريم؛ بيَّن فيها أنَّ معنى النزول في كتاب الله عز وجل يتفق مع المعنى اللغوي الحقيقي، وأنَّه لا مجاز في استعماله مع القرآن، وهو ما ينسجم مع رأيه أن لا مجاز في كتاب الله عز وجل. قال -رحمه الله-: "ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا وفيه معنى النزول المعروف، وهذا هو اللائق به، فإنه (أي القرآن) نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب نزولاً إلا بهذا المعنى، ولو أُريدَ غيرُ هذا لكان خطاباً بغير لغتها، ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز...". ويؤيد رأي ابن تيمية أن نزول القرآن نزول حقيقي وليس بمجاز تلكم الآياتُ التي جاء فيها توكيد لفظ النزول بالمصدر، كما في قوله عز وجل: "وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا"[ الإسراء:106]، وقوله سبحانه وتعالى:"إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا"[ الإنسان:23]. قال النحاس -رحمه الله-: "أجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً". ولا شك أن رأي ابن تيمية أيضاً مبناه على رأي السلف في العقيدة، والذين يثبتون صفة العلو لله عز وجل؛ لذلك نجد ثلة من أهل العلم قد تابعوه على قوله. لكن السيوطي -رحمه الله- في الإتقان أورد عن الأصفهاني أنَّ أهل السنة والجماعة اتفقوا على أن كلام الله منزل، واختلفوا في معنى الإنزال. ثم أورد عنه أقوالاً مبناها على القول بتأويل معنى النزول؛ لكون المعنى اللغوي لكلمة النزول لا ينسجم مع ما يسمى بعقيدة الخلف التي تؤول صفة العلو لله عز وجل، وهذا هو رأي معظم الكاتبين في علوم القرآن، كالزرقاني وغيره من المتأخرين. ولقد وجدت لأحد المفسرين المتأخرين وهو الطاهر بن عاشور -رحمه الله- كلاماً نفيساً حول معنى النزول يجعلنا نرى الصورة بشكل أشمل، ونعلم أنَّ الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي؛ حيث قال -رحمه الله-: "والإنزال جعل الشيء نازلاً، والنزول الانتقال من علو إلى سفل، وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معانٍ راجعة إلى تشبيه عملٍ بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية؛ كما في قوله تعالى: "قد أنزلنا عليكم لباساً"، وقوله: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"؛ لأنَّ خلقَ الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه. وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله سبحانه وتعالى إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعاً لنزول الملك مُبَلِغه الذي يتصل بهذا العالم نازلاً من العالم العلوي؛ قال تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك" فإنَّ الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه. وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تلقى إلى النبي بشيءٍ وصل من مكانٍ عال، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاماً سمعه الرسول كالقرآن، وكما أنزل إلى موسى عليه السلام، وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال)، وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم عليه السلام فلا تسمى إنزالاً". وعلى كل حال ليس هناك كبير فائدة أو أثر من وراء هذا الاختلاف؛ لذلك نكتفي بهذا العرض الموجز، وإن كان الأمر يطول الحديث فيه لو أنا سمحنا بذلك. لكن ينبغي أن أشير إلى ما نعتقده من أن السبب وراء هذا الخلاف هو إقحام العقل في الدائرة التي ينبغي أن يقف عندها ولا يتجاوزها.
ثانياً- هل للقرآن الكريم تنزلات:
العلماء في هذه المسألة فريقان؛ فريق رأى أنَّ القرآن له تنزلات عدّة، وفريق عارض هذا القول فقال: إن للقرآن تنزلاً واحداً، هو التنزل المباشر من الله عز وجل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك جبريل عليه السلام.
1- القول بالتنزلات: نظر الفريق الأول -الذين قالوا بالتنزلات- في الآيات التي دلَّت على أنَّ القرآن نزل في رمضان، وفي ليلة القدر والليلة المباركة؛ كما في قوله عز وجل: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"[البقرة:185]، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"[القدر:1]، وقوله سبحانه وتعالى: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة"[الدخان:3]، ففهموا منها أنها دلت على تنزل كامل للقرآن في هذه الليلة المباركة من ليالي رمضان، وهي ليلة القدر. ولكن كيف يمكن أن يكون القرآن نزل في ليلة واحدة، ومن المعلوم ضرورةً أنه نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً طوال الفترة التي قضاها بين الناس منذ بعثته إلى وفاته. فحاولوا أن يوفّقوا بين ذلك الفهم الأولي للآيات الثلاث السابقة، وبين هذه الحقيقة المجمع عليها، فوجدوا لذلك تفسيراً من خلال نظرهم في قوله سبحانه وتعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:22]، ومن خلال أثر مروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- يفيد أنَّ القرآن مَرَّ في نزوله بمراحل. فقرر البعض أنَّ هناك تنزلات ثلاثة، أولها تنزل للقرآنِ إلى اللوح المحفوظ، واستشهدوا بقوله تعالى: "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4]، وقوله: "بل هوقرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22]. وهنا لا بد أن ننبه إلى أن الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان وغيرهما لم يستعملوا لفظ النزول عند حديثهم عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وإنما ذكروا التنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ومن ثَمَّ من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل الزرقاني هو أول من وجدته يعبر بالتنزل الأول عن وجود القرآن في اللوح المحفوظ، وتبعه بعض من جاء بعده كالشيخ الذهبي -رحمه الله-. أما التنزل الثاني -أو هو التنزل الأول عند من يرى أنَّ هناك تنزلان- فكان هذا التنزل من اللوح المحفوظ إلى مكان يُسمَى بيت العزة في السماء الدنيا، وقالوا: إنَّ هذا التنزل كان في رمضان في ليلة القدر الليلة المباركة، وهو ما دلت عليه الآيات الثلاث قوله عز وجل:"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن"، وقوله جل جلاله:"إنا أنزلناه في ليلة القدر"، وقوله عز وجل: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة". وقال بعض هؤلاء إنَّ هذا التنزل استغرق أيضاً سنوات في ليال قدر عدة، ولم يسوقوا على ذلك دليلاً مقبولاً. أما التنزل الثالث -أو الثاني عند من يرى أن هناك تنزلان- فقد كان من بيت العزة في السماء الدنيا إلى الأرض على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم حسب الأحوال والمناسبات. ودليل هذا الفريق هو فهمهم لما سبق من الآيات الثلاث على النحو الذي أوردناه. وقد رد الفريق الآخر على هذا الاستدلال بأن المقصود بنزول القرآن في رمضان أو الليلة المباركة أو ليلة القدر في تلك الآيات هو أن ابتداء نزول القرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الوقت، وليس المقصود نزوله كله، وخاصة أن العلماء مجمعون على أن لفظ القرآن يطلق على القرآن كله، أو على جزء منه. وفسروا آيتي الزخرف "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم"[الزخرف:4] والبروج "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ"[البروج:21-22] والتي تدل على وجود القرآن في اللوح المحفوظ بأنها تبين أن القرآن الكريم حاله كحال أي حدث أو أمر أو شيء قد يحدث في هذا الكون ذكر الله عز وجل خبره وتفاصيله في كتاب الكون اللوح المحفوظ، فكما هو معلوم فإنَّ كل شيء مسطور في اللوح المحفوظ. واستدل الفريق الأول أيضاً بالأثر الوارد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة؛ لأني أحسب أنَّ هذا الأثر لو لم يكن موجوداً ما وقع هذا الخلاف. وكنت -ولله المنة والفضل- قد جمعت الروايات الواردة لهذا الأثر من مظانها، وقمت بدراسة أسانيدها ومتونها، ووصلت إلى مجموعة من النتائج.
ملاحظات حول روايات هذا الأثر:
1- أنها كلها موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-: يلاحظ أن كل الروايات موقوفة على ابن عباس -رضي الله عنهما-، والمسألة من أمور الغيب التي لا تثبت إلا بما جاء في القرآن الكريم، أو السنة المرفوعة المقبولة. هذا إضافة إلى أننا لا نستطيع الجزم بأن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قد أخذ هذا القول عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنه قد يكون فهماً له رضي الله عنه فهمه من النصوص، أو فهماً من بعض الرواة لكلام ابن عباس على خلاف ما أراد هو رضي الله عنه، وهذا الذي أميل إليه لاختلاف ألفاظ الروايات كما يلاحظ الناظر فيها -والله أعلم-
2- عدم ورود مثل هذا الخبر عن غيرابن عباس -رضي الله عنهما- من الصحابة رضي الله عنهم: لم أجد هذا الخبر أو معناه وارداً عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا يوهن أن تكون الرواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ كيف لأمر مثل هذا متعلق بكتاب الله عز وجل لا يرويه إلا صحابي واحد، ومن صغار الصحابة أيضاً.
3- ذكر بيت العزة: بيت العزة هذا المكان المذكور في بعض روايات هذا الأثر لم يذكر لا في القرآن، ولا في السنَّة حسب اطلاعي؛ لذلك فهو أمر غيبي نحتاج حتى نثبته إلى دليل مقبول أيضاً، وهذا أمر غير متوافر. والقول بأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه يعد في منزلة المرفوع إذا عرف عنه أنه لا يأخذ بالإسرائيليات من المسائل غير المتفق عليها بين أهل العلم، لذلك في النفس منه شيء؛ خاصة إذا علمت أن قول الصحابي مختلف في حجيته في فروع الأحكام، فكيف في العقائد والتصورات؟!.
4- ذكر مواقع النجوم في بعض روايات الأثر: مواقع النجوم المذكورة في سورة النجم في قوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم" لا يقصد بها أوقات نزول القرآن الكريم، ولا مواقع نزوله؛ كما جاء في بعض روايات أثر ابن عباس؛ بل المقصود بها مواقع النجوم التي نشاهدها في السماء، وفي القسم بها دليل على عظم شأنها. وهذا التفسير أستطيع أن أجزم أن ترجمان القرآن ابن عباس -رضي الله عنهما- مبرأٌ منه، لأنه مخالف للغة، وما صح من روايات في ذلك حتى عن ابن عباس، ومعلوم أن ابن عباس هو في التفسير واللغة. كذلك الرواية في إسنادها راوٍ متروك الحديث، أي أنها واهية لا تستحق النظر فيها.
5- الاختلاف بين روايات الأثر: الاختلاف بين روايات الأثر من حيث تحديد بعض الروايات مدة نزول القرآن في عشرين سنة، ومن المعلوم أن مدة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثلاثة وعشرين عاماً، وهو المروي عن ابن عباس نفسه في الصحاح، فقد روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: (أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ، فَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَكَثَ بِهَا عَشْرَسِنِينَ ثُمَّ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم).
وهذا يجعل الشك يتطرق إلى الرواية.
ملحوظات على هذا القول نفسه: إن الأخذ بهذا القول يدفع للقول بأن جبريل عليه السلام لم يأخذ القرآن عن الله عز وجل مباشرة، خلافاً لما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، وهو ما يفتح مجالاً لبعض أصحاب الآراء المنحرفة لدس آرائهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وكذلك قد أخبر -أي الله عز وجل- في غير موضع من القرآن أنَّ القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه... قال تعالى: "أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق"، وقال تعالى: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق"... فبين أنَّ جبريل نزّله من الله سبحانه وتعالى لا من هواء، ولا من لوح، ولا من غير ذلك...، فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله عز وجل، مكذب لكتاب الله عز وجل، متبع لغير سبيل المؤمنين".
2- القول بالتنزل الواحد: أما الفريق الثاني من أهل العلم فقد قال بالتنزل الواحد، أي أنَّ جبريل عليه السلام أخذ القرآن مباشرة من عند الله عز وجل، ونزل به على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم استمر نزوله بعد ذلك منجماً في أوقات مختلفة. وينسب هذا القول إلى الشعبي، ومحمد بن إسحاق-رحمهما الله- من علماء السلف، وقال به ابن العربي والنسفي -رحمهما الله- من العلماء المتقدمين. ومن المتأخرين قال به الشيخ محمد عبده في تفسيره لجزء عم ، وتلميذه محمد رشيد رضا، والدكتور صبحي الصالح في مباحثه، والشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمهم الله جميعاً- وأستاذنا الدكتور فضل حسن عباس-حفظه الله-.
3- القول المختار: عند النظر في أدلة الفريقين يجد الباحث نفسه تميل إلى الأخذ بالقول الثاني، ولعل أستاذنا د.فضل حسن عباس -حفظه الله- قد كفانا كثرة الكلام حول اختيار هذا القول؛ حيث قال-حفظه الله-: "وإنما اخترت هذا القول لما يلي: أولاً: لأنَّ القول بأنَّ القرآن الكريم أُنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان، لم يصل إلينا من كتاب أو سنة صحيحة، وإنما وردت آثار موقوفة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي تحتاج إلى تمحيص من حيث أسانيدها. والقول بأن مثل هذا لا يمكن أن يكون رأياً لابن عبّاس غير مسلّم، فقد يكون ابن عباس فهم الآية هذا الفهم إن صحت هذه الأقوال عنه. ثانياً: يلزم على القول بأن القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، عدم نزوله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في رمضان؛ لأنهم يرون أن الذي ذكرته الآيات في حديثها عن نزول القرآن في رمضان هو نزوله دفعة واحدة إلى السماء الدنيا. وهذا غير مُسلّم به فإن الذي أجمعت عليه الأمة إجماعاً مستنداً إلى السنة الصحيحة، وإلى الكتاب الكريم هو أن القرآن نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في رمضان. ثالثاً: إن المتدبر للآية الكريمة يجزم بما لا يحتمل شكاً بأنها تتحدث عن نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلنتدبر هذه الآية الكريمة: "شهر رمضان الذي أُنزلَ فيه القرآنُ هدىً للنَّاس وبينات من الهدى والفرقان"[البقرة: 185]، فلو كان المقصود نزوله إلى سماء الدنيا لم يكن هناك كبير فائدة في قوله تعالى: "هدىً للناس" إنما الأمر الذي يطمئن إليه القلب وتستريح إليه النفس هو أنَّ القرآن نزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدى للناس. رابعاً: إنَّ الله تبارك وتعالى يَمُنُّ علينا بالهداية بأن كرّمنا بهذا القرآن الكريم "بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان". وهذه المنّة إنما تتحقق بإنزال القرآن لنتعظ منه ونعتبر، وهذا أمر غير متحقق بنزوله إلى سماء الدنيا، يقول السيد محمد رشيد رضا -رحمه الله-: "وأما معنى إنزال القرآن في رمضان مع أنَّ المعروف باليقين أنَّ القرآن نزل منجماً متفرقاً في مدة البعثة كلها فهو أن ابتداء نزوله كان في رمضان، وذلك في ليلة منه سميت ليلة القدر، أي الشرف، والليلة المباركة، كما في آيات أخرى، وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه، على أن لفظ القرآن يُطلق على هذا الكتاب كله، ويُطلق على بعضه. وقد ظنَّ الذين تصدوا للتفسير منذ عصر الرواية أن الآية مشكلة، ورأوا في حل الإشكال أن القرآن نزل ليلة القدر من رمضان إلى سماء الدنيا، وكان في اللوح المحفوظ فوق سبع سماوات، ثم نزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجماً بالتدريج، وظاهر قولهم هذا أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان منه شيء خلافاً لظاهر الآيات، ولا تظهر المنة علينا، ولا الحكمة في جعل رمضان شهر الصوم على قولهم هذا؛ لأن وجود القرآن في سماء الدنيا كوجوده في غيرها من السماوات أو اللوح المحفوظ من حيث إنه لم يكن هداية لنا، ولا تظهر لنا فائدة في هذا الإنزال ولا في الإخبار به، وقد زادوا على هذا روايات في كون جميع الكتب السماوية أنزلت في رمضان. كما قالوا إن الأمم السابقة كلفت صيام رمضان".
3- الحكمة من إنزاله جملة إلى السماء عند من يرى ذلك: القائلون بتعدد التنزلات يرون أن لإنزال القرآن جملة إلى السماء الدنيا فوائد منها: الفائدة الأولى: تفخيم شأن القرآن وشأن من سينزل إليه، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليها لننزله عليها، وهي الأمة الإسـلامية، وفي هذا تـنويه بشأن المنزَل، والمنزَل عليه، والمنزَل إليهم وهم بنو آدم، ففيه تعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم، ورحمته لهم، ثم إن وضعه في مكان يسمى بيت العزة يدل على إعزازه وتكريمه. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجماً بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله باين بينه وبينها فجعل له الأمرين.
الفائدة الثانية: تفضيل القرآن الكريم على غيره من الكتب السماوية السابقة، وذلك بإنزاله مرتين، مرة جملة، ومرة مفرقاً، بخلاف الكتب السماوية السابقة، فقد كانت تنزل جملةً مرة واحدة، وبذلك شارك القرآن الكتب السماوية في الأولى، وانفرد في الفضل عليها بالثانية، وهذا يعود بالتفضيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء السابقين. ولعل الناظر في هذه الحكم يزداد قناعة بضعف القول بتعدد النزول؛ لأنه لا حكمة من تلك التنزلات التي ذكروها، وما ذكروه إنما هو إنشاء وكلام لا تجد له مستنداً من العلم، فمبناه على الظن غير المستند إلى دليل، وأساس هذا الظن هو محاولة المفاضلة بين القرآن وغيره من الكتب؛ وكأنه يلحق القرآن نقيصة إذا لم ينزل جملة؛ هذا إن صحّ أن غيره نزل جملة. إن القرآن هو خير الكتب، ويكفي لخيريته أنه حُفِظ إلى قيام الساعة.