المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إجراءات ما قبل المحاكمة في جرائم الفساد


محمد عبد المحسن
01-21-2016, 03:30 PM
إجراءات ما قبل المحاكمة في جرائم الفساد الإداري والمالي
في القانون العراقي







بحث مقدم من
المدرس الدكتور محمد عبد المحسن سعدون










ملخص البحث
إن موضوع " إجراءات ما قبل المحاكمة في جرائم الفساد الإداري والمالي" يثير الكثير من الإشكاليات منها أن هذه الجرائم يصعب الكشف عنها لكونها تتسم بالسرية والكتمان ، كما إن التحقيق فيها من اختصاص هيأة النزاهة ، لذلك لابد من معرفة الدور الذي تقوم به الهيأة في التحري والتحقيق عن جرائم الفساد التي تعاني منها مؤسسات الدولة العراقية وأجهزتها ، وما لهذه الجرائم من أثر سلبي في إعاقة تطور البلد وتقدمه ، ومدى إمكانية الهيأة في تحجيم هذه الجرائم قدر الإمكان من خلال الصلاحيات الممنوحة لها .
ولمعالجة الإشكاليات المتقدمة فقد قسمنا موضوع البحث إلى مبحثين تناولنا مفهوم الفساد في المبحث الأول ، آما المبحث الثاني فقد تناولنا فيه تحريك الدعوى الجزائية و إجراءات التحري والتحقيق في جرائم الفساد، ثم أنهينا البحث بخاتمة تضمنت أهم ما توصلنا إليه من استنتاجات ومقترحات .
وقد كانت دراسة الموضوع دراسة تحليلية من ناحية نصوص قانون هيأة النزاهة وقانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 المعدل ومدى تطابقهما ، والإشارة إلى بعض نصوص قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل ، وبعض التشريعات العربية والأجنبية في مواضع معينة من الدراسة كقانون العقوبات المصري والفرنسي , وقانون الإجراءات الجنائية المصري والليبي واليمني واللبناني والسوري والأردني .
ABSTRACT
The main subject (the investigation of government's corruption matters) , raises a lot of controversy that these crimes within the jurisdiction of the Authority of the crimes that are harder to detect as secret and confidential, and that knowledge of the role played by the Authority in the investigation and prosecution of these crimes suffered by Iraqi state institutions and organs, and these crimes would adversely affect the development of the country and impede its progress, and scaled as much as possible through the powers granted to the Hey.
The search included the most-edge of the conclusions and proposals. The study of the topic analytical study of the texts of statutory law to the board of integrity, and the law of the Iraqi Penal Procedures No. 23 of 1971, as amended, and their compatibility and the reference to some provisions of the Iraqi Penal Code No. 111 of 1969, as amended, and some Arab legislation in certain placements of the study into law the Egyptian Penal , and the French, and the Code of Criminal Procedure of Egypt, Libya , Syria , Jordan , and a Yemeni, and Lebanon.

المقدمة

بدأت محاولات اكتشاف الجرائم وملاحقة مرتكبيها باجراءات التحقيق والمحاكمة، منذ أن عرف الإنسان الجريمة. وظلت تلك المحاولات تنمو وتتطور مع تطور المجتمعات وتعدد أنماط الجرائم وأساليب ارتكابها.فقد كانت محاولات اكتشاف الجرائم والتحقيق فيها في بدايتها تتم بأساليب وطرق أشبه بأساليب ارتكاب الجرائم والعقوبات التي كانت سائدة آنذاك، فقد كان التخمين والدجل والشعوذة أحيانا والضرب والتعذيب أحيانا أخرى هي الإجراءات المتبعة للوصول الى الحقيقة . ثم انتقل التحقيق وإجراءات ملاحقة مرتكبي الجرائم الى مرحلة الاعتماد على الشهود وتتبع آثار الأقدام والفراسة وغيرها من القدرات والمهارات الفطرية التي توفرت لدى بعض الأفراد والقبائل.
ومع تطور الإنسان وتوفر أسباب العلم والمعرفة، دخلت الجريمة مرحلة استغلال مخرجات العلوم والمعرفة في ارتكاب الجريمة لتصبح الأسلحة النارية والمواد الكيميائية والبيولوجية أداة وعنصرا من العناصر المكونة للجريمة.لذا لجأ المحققون الى الاستفادة من ذات الوسائل والأسباب في إجراء البحث وملاحقة المجرمين . فكانت ظاهرة المختبرات الجنائية وطرق التحقيق الجنائي الفني التي انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي أواخر القرن العشرين، ظهرت تقنية الحاسب الآلي كأداة من أدوات الجريمة مما استوجب اللجوء الى التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي في اكتشاف الجريمة وتوفير الأدلة الجنائية من ذات بيئة التقنية العالية( ).إلا انه من المرجح إن تبقى بعض الأساليب الفنية المعروفة في مجال التحقيقات الجنائية مرتكزة على ثوابت أساسها الخبرة، والموهبة والمهارة الشخصية للمحققين. فإذا كانت جرائم الفساد الإداري والمالي تتطلب وسائل تكنولوجية للتحقق فيها، فلا يعني ذلك إلغاء القواعد التقليدية العامة. بل تظل تلك القواعد والمهارات المكتسبة والقدرات الفطرية لدى المحققين ثوابت لا غنى عنها. وعليه يتوجب علينا أن نتناول هنا الإجراءات التي يرتكز عليها المحققون في التحري والتحقيق بجرائم الفساد الإداري والمالي .
أولا. أهمية البحث:-
لقد انتشرت بذور الفساد بصوره كافة،ونمت وترعرعت في العراق نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية وعنف السلطات المتعاقبة وتعسف موظفيها وسعي المواطنين كل على حدة للخلاص من واقع الظلم والظلام خاصة بعد إن أصبحت الوظيفة تشريفا ومناسبة للحصول على المزيد من الجاه والأموال عن طريق الاستحواذ على أموال الآخرين وممتلكاتهم وحتى حقوقهم المدنية في الحياة والحرية والتعبير والرأي وإقامة التجمعات المدنية،
أن مكافحة الفساد تبدأ بالحلول الاقتصادية والاجتماعية, ولكن لا بد من وجود قوانين تستطيع أن تتابع قضية الفساد في مرحلتين: الأولى تسمى المراقبة والمتابعة والتفتيش وهذا يرتبط ارتباطا كاملا في عملية الإصلاح الإداري والمالي والقضائي. والثانية: لا بد من وجود قانون عقابي، وفي كل بلاد العالم توجد قوانين تعاقب على جرائم الفساد,ولكن ذلك يتطلب قبل كل شيء التحقيق في هذه الجرائم لمعرفة مرتكبها لكي يتم إحالته إلى المحاكم لإنزال العقوبة المنصوص عليها بحقه.وتعد إجراءات التحري والتحقيق التي يقوم بها المحققين وأعضاء الضبط القضائي باعتمادهم على الأسس العلمية من حيث منع وقوع الجريمة قبل وقوعها وضبط الجريمة ومعرفة مرتكبها بعد وقوعها عاملا مهما وفاعلا في مكافحة جرائم الفساد الإداري والمالي.
ثانيا. مشكلة البحث:-
نشأت ظواهر تخص السلوك غير القويم للفرد والمتمثل بعدم نزاهة الأفراد (سلوكياً ، وظيفياً ، مالياً) في العقود الأخيرة وقد تأثر المجتمع العراقي بهذه الظواهر التي بدأت تنخر في هيكلية الدولة وعجزها عن مواجهة مثل هذه الظواهر الاجرامية .وهناك أدلة ومؤشرات تؤكد انتشار ظاهرة الفساد بمختلف صوره وأنماطه على نطاق واسع في كثير من البلدان وفي مقدمتها العراق( ). الأمر الذي أدى إلى تساؤل الباحث عن كيفية الكشف عن السلوك الإجرامي لهذه الظواهر وتحريك الدعوى الجزائية فيها.
ثالثا: . أهداف البحث :- بالنظر الى الأخطار والمهددات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية التي تفرزها ظاهرة الفساد، من المؤمل إن يحقق هذا البحث الأهداف الآتية:-
1. التعرف على مفهوم الفساد .
2. التوعية بظاهرة الفساد وانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية
3. التعرف على خصائص جرائم الفساد.
4. التعرف على وسائل تحريك الدعوى الجزائية في جرائم الفساد
5. التعرف على إجراءات التحري والمراحل التي تمر بها إجراءات التحقيق.
6. معرفة دور المحقق هيأة النزاهة في التحقيق بجرائم الفساد.
7. بلورة الحلول والمقترحات التي من شانها إن تسهم وتعزز الجهود المبذولة لمكافحة جرائم الفساد والحد منها.
رابعا:منهجية البحث:-
يعتمد هذا البحث المنهج الوصفي والتحليلي المستند إلى النصوص القانونية و البيانات والحقائق والتقارير المتوفرة عن ظاهرة الفساد ، بجانب دراسة الأدبيات والبحوث ذات العلاقة، وفحص التشريعات الوطنية والوثائق والصكوك الدولية التي تجرم الفساد وتبين إجراءات مواجهته،عبر إقامة الدعوى الجزائية والمصادر التي يعتمد عليها المحقق في جمع المعلومات والبيانات للوصول إلى أفضل السبل التي يجب إتباعها في التحقيق الجنائي.
ويتكون البحث من:
المبحث الاول: مفهوم الفساد الإداري والمالي
المطلب الاول: تعريف الفساد
المطلب الثاني: خصائص جرائم الفساد
المبحث الثاني:إجراءات ما قبل المحاكمة في الدعوى الجزائية لجرائم الفساد
المطلب الأول:وسائل تحريك الدعوى الجزائية في جرائم الفساد
المطلب الثاني:التحري وجمع الأدلة في جرائم الفساد
المطلب الثالث:التحقيق في جرائم الفساد



المبحث الأول
مفهوم الفساد الإداري والمالي

عُرف الفساد في الأرض منذ أقدم العصور، وتعمقت جذوره، وتباينت صوره ، وتفاقمت آثاره المدمرة في العديد من المجتمعات، حتى غدا تطهير الأرض من الفساد غاية من غايات الرسالات السماوية . وفي القران الكريم العديد من الآيات التي تنهى عن الفساد في الأرض( ) ، وتذم المفسدين. قال تعالى( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)( ). وقال تعالى (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)( ) وقد ساوى الله عز وجل الذين يسعون في الأرض فسادا بالذين يحاربون الله ورسوله وانزل عليهم عقوبة القتل أو الصلب أو القطع من خلاف أو النفي، كما توعدهم في الآخرة بالعذاب العظيم.(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم)( )
وقد صاحب الفساد الإنسان عبر تاريخه الطويل بصور وأشكال متنوعة، مسببا إضرارا بالغة للغالبية العظمى من المجتمعات، حتى أصبح الفساد في عصرنا هذا ظاهرة عالمية تثير القلق والمخاوف لدى الحكومات والشعوب في مختلف أنحاء العالم. وينمو الفساد وتتضاعف أضراره وتتسع ميادينه مع نمو الاقتصاد وتسارع خطوات التنمية وسياسات السوق.ولاشك إن لقيم الحياة المادية المعاصرة ، المؤسسة على سلطة المال وحب الذات والأنانية دورا في انتشار ظاهرة الفساد، الذي بات عائقا أمام خطط التنمية ونهضة البلدان الفقيرة منها والغنية. فالفساد يؤدي الى الفقر والجهل والمرض ووفاة الملايين من البشر . وهو بذلك من مهددات الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي وتحقق الرفاهية، وهو السبب الرئيسي وراء فشل الحكومات ، إذ يشكل اليوم احد اكبر مهددات التنمية في كثير من دول العالم، انه يضعف النظم السياسية ويشوه الأسواق ويشجع الناس لاستخدام مهاراتهم وطاقاتهم بطرق غير منتجة( )
وقد ترتب على ما سلف ، أن تحول الفساد من هاجس وطني أو إقليمي إلى قضية قانونية سياسية عالمية أدرك العالم خطورتها وازداد قلقه وتضاعفت مخاوفه إزاء تداعياتها وعواقبها، واستقر في يقينه الحاجة الماسة الى سياسات فعالة للتصدي لها .ومن اجل الإحاطة بمفهوم الفساد الإداري والمالي سنقوم بدراسة تعريف الفساد في المطلب الاول ، إما المطلب الثاني فسوف نخصصه لدراسة خصائص جرائم الفساد.
المطلب الاول
تعريف الفساد
لقد اختلف المجتمع الدولي حول مفاهيم بعض الظواهر الإجرامية والمشكلات الأمنية المعاصرة مثل جرائم الإرهاب وغسيل الأموال والجريمة المنظمة مما حال دون التوصل الى خطط موحدة تتضافر حولها الجهود الدولية والإقليمية والوطنية لمواجهة تلك الظواهر الإجرامية. ولكن كان من حسن الطالع أن توصل المجتمع الدولي الى الاتفاق حول مفهوم الفساد في وقت وجيز نسبيا، مما عزز موقف الاتفاقيات الإقليمية والدولية التي تم اعتمادها في هذا الشأن.( )
الفساد لغة: من فسد ، فسد الشيء يفسد( بضم السين) فسادا، فهو فاسد.وفسد (بضم السين) أيضا فهو فسيد، وافسد ففسد. والمفسدة ضد المصلحة، وفساد الشيء يعني تلفه وعدم صلاحيته( ).
أما اصطلاحا فقد طرحت تعريفات عدة للفساد، دون أن تبرز بينها اختلافات جوهرية، غير انه من الملاحظ أن بعض التعريفات جاءت مطلقه لبيان مفهوم عبارة الفساد، بينما جاءت بعض التعريفات وهي تركز على عبارة الفساد الإداري. وفي هذه الفئة الأخيرة من التعريفات جزء يركز على الفساد الإداري في القطاعين العام والخاص. ووفقا لمفهوم الأمم المتحدة، فأن الفساد هو سوء استعمال السلطة العامة للحصول على مكاسب شخصية ويضير المصلحة العامة( ).ويعرف البعض الفساد، بأنه الظاهرة المؤدية الى المحافظة على الوضع الراهن وعدم المساواة في السلطة بالمفهوم الاجتماعي السياسي( ).
في حين عرفه البعض بأنه استخدام السلطة العامة من اجل كسب أو ربح شخصي أو من اجل تحقيق هيبة أو مكانة اجتماعية، أو من اجل تحقيق منفعة أو طبقة ما بالطريقة التي يترتب عليها خرق القانون أو مخالفة التشريع ومعايير السلوك الأخلاقي.( )
ومن أكثر تعريفات الفساد دقة، تعريف المنظمة الدولية للشفافية الذي يحدد الفساد بإيجاز، بأنه إساءة استعمال السلطة التي اؤتمن عليها لمكاسب شخصية( ). وتفرق المنظمة الدولية للشفافية بين نوعين من الفساد هما:
1. الفساد بالقانون وهو ما يعرف بمدفوعات التسهيلات ، التي تدفع فيها رشاوى للحصول على الأفضلية في خدمة يقدمها مستلم الرشوة وفقا للقانون.
2. الفساد ضد القانون وهو دفع رشوة للحصول من مستلم الرشوة على خدمة ممنوع تقديمها.
اما في مجال القانون، ورغم الاستخدام الشائع لعبارة الفساد، مازالت القوانين الوطنية خالية من تعريف قانوني للفساد كجريمة تعاقب عليها القوانين العقابية، كما تخلو من قسم يضم طائفة من الجرائم التي يمكن تسميتها بجرائم الفساد، غير أن القوانين العقابية قدمت تعريفات للجرائم التي توصف اليوم بجرائم الفساد وفقا للمواثيق الدولية والإقليمية. وكما سبق أن اشرنا، فأننا نجد ما يشبه الإجماع حول أنماط الجرائم التي ينبغي إدراجها ضمن قائمة جرائم الفساد، التي تعهدت بها الاتفاقيات والمواثيق الدولية والإقليمية، ونورد منها ما يلي:
1. اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية( ).

أفردت اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية المادة(8) منها لدعوة الدول الأعضاء إلى تجريم الفساد.ويتضح من نص هذه المادة أن الالتزام الذي فرضته الاتفاقية على الدول الإطراف في مجال هذا التجريم قد انصب أساسا على صور السلوك المختلفة للرشوة في نطاق الموظفين العموميين والقائمين بالخدمة العمومية، بالتعريف الوارد في القوانين الداخلية للدول الإطراف.
2. اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد( )
تكفل الفصل الثالث من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، بدعوة الدول الأعضاء إلى تجريم أفعال محددة يأتي بها الموظفون العموميون وهي:
1-جرائم الرشوة.
2- المتاجرة بالنفوذ.
3. قيام الموظف العمومي عمدا باختلاس الأموال العامة.
4. إساءة استغلال الموظف العمومي وظائفه أو مهام منصبه.
5. الإثراء المتعمد غير المشروع للموظف العمومي.
6. الرشوة في مجال القطاع الخاص.
7. اختلاس الممتلكات في القطاع الخاص.
8. غسل العائدات الإجرامية.
ونخلص مما سبق أن مصطلح الفساد الإداري والمالي يستخدم للإشارة إلى السلوك الإجرامي الذي يرتكب لتحقيق دوافع اقتصادية واجتماعية وسياسية من خلال كبار وصغار الموظفين الرسميين عند قيامهم بأعبائهم الوظيفية عن طريق ارتكابهم لجرائم الرشوة والاختلاس وتجاوزهم حدود وظائفهم.وأية جرائم يرى المشرع أنها تشكل إخلالا بواجبات الوظيفة العامة( ).


المطلب الثاني
خصائص جرائم الفساد الإداري والمالي
تبرز جريمة الفساد كظاهرة إجرامية عندما تتوفر مجموعة من العوامل المساعدة ، حالها حال أية ظاهرة إجرامية أخرى ، كما أن للظاهرة الإجرامية بصفة عامة خصائص وعناصر مشتركة . إلا أن لكل ظاهرة إجرامية خصائص خاصة بها تتميز بها عن غيرها من الظواهر الإجرامية ( ). وعلى هذا النحو فان لظاهرة الفساد خصائص خاصة بها ، ومنها :
1- من حيث الطبيعة ونوعية الجناة:
تعد جرائم الفساد من الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة العامة حسب الأصل، إذ ترتكب جرائم الفساد من قبل أفراد وجماعات تشغل وظائف عامة أو تمارس تكليفاً عاماً. إلا إن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003 قد أطلقت ذات الوصف على نفس النوع من الجرائم المرتكبة من قبل أفراد القطاع الخاص.
وينص على جرائم الفساد في القوانين العقابية على سبيل الحصر تطبيقاً لمبدأ ( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ) ، وعلى هذا النحو اختلفت القوانين المقارنة في تحديد الأفعال والسلوكيات التي تعد جرائم فساد ، إلا إن هناك جرائم فساد لا يخلو منها إي قانون عقابي ، منها جريمة الرشوة وجريمة الاختلاس( ) .
وجريمة الرشوة هي الأخطر على المجتمع والاقتصاد والقيم الخلقية من بين جرائم الفساد كلها . إذ أنها لا تترك خلفها أثرا مادياً يمكن إن يقتفيه المحقق في الأغلب ، كونها تتم خلف الأبواب الموصدة وخاصة جرائم الرشوة الضخمة.
وتتجسد خطورة الرشوة في إنها تدفع مقابل الحصول على معلومات عسكرية أو اقتصادية أو لتمرير صفقات فاسدة أو أنها تتسبب في إفساد القطاع الصحي أو التعليمي أو إيقاع ضرر في البيئة ، مما يهدد امن وسلامة المجتمع ككل .وتعرف الرشوة بأنها ( متاجرة الموظف بأعمال وظيفته للقيام بعمل أو الامتناع عن عمل ) ( ).
2ـ أنها جريمة تنظيمية في وجه من وجوهها( ): والجريمة التنظيمية هي التي ينسب ارتكابها الى المرفق العام ذاته ويطلق على هذه الخاصية وصف أو مصطلح ( انحراف المؤسسات الحكومية ) وترتبط هذه الخاصية بالمرفق العام لا بأعضائه من الموظفين .
إذ لفت انتباه الباحثين( ) إن هناك مؤسسات حكومية ارتبطت بالفساد منذ نشأتها وبقي سمة ملازمة لها حتى بعد تغيير إدارتها المركزية أو موظفيها عبر الزمن ، كالتقاعد أو النقل أو العزل أو الاستبدال أو الحل وإعادة التأسيس وغيره ، بمعنى آخر إن طبيعة عمل المرفق العام هي التي تشجع الموظف الذي لا يمتلك حصانة ذاتية مضادة للفساد على ارتكاب الجريمة ، وهكذا تتغير الوجوه ويبقى الفساد قائماً .
وتبدو هذه الخاصية واضحة في المؤسسات العسكرية والتجارية وهيئات الضرائب ومكاتب منح الرخص وأية مؤسسة لها صلة وثيقة بالأنشطة الاقتصادية كالاستيراد والتصدير والتموين ، إذ يبدو الفساد وكأنه مرض مزمن أو عاهة مستديمة في اغلب هذه المؤسسات العامة .
وعلى سبيل المثال بدت هذه الخاصية واضحة في المؤسسات الفاسدة التي حُلت وأعيد تشكيلها بإدارة مركزية جديدة في العراق بعد سقوط النظام السابق في العراق، إذ سارت على ذات النسق في ارتكاب جرائم الفساد.
3ـ أنها ظاهرة ذات صلة وثيقة بالجريمة المنظمة( ) : تعتمد مؤسسات الجريمة المنظمة على الفساد بصفة أصلية لتحقيق أهدافها ومشاريعها الإجرامية عبر القارات ، وتمرير صفقاتها واستردادها في حالة الحجز عليها إداريا ، وهي تعتمد على الفساد أيضا في حماية أعضائها من المساءلة في حالة القبض عليهم وإعاقة سير العدالة .
ومن جانب آخر يُشجع الفساد على نشوء الجريمة المنظمة، فالدولة التي ينخر الفساد جسدها تشكل عامل جذب للمنظمات الإجرامية الدولية. التي تدخل البلد على شكل شركات مقاولات أو مؤسسات فنية أو جمعيات خيرية وتمارس في الخفاء أعمال غسيل الأموال أو تجارة المخدرات أو الاتجار بالبشر أو تجارة الأعضاء البشرية أو الدعارة .
كما وتسهم الجريمة المنظمة في تعميق ظاهرة الفساد وتفشيها بما تضخه من أموال ضخمة كرشاوى للحصول على التراخيص والإعفاء الضريبي أو الكمركي والمقاولات والمعلومات السرية وإخفاء الأدلة الجرمية والتأثير على سير العدالة وللتخلص من الرقابة أو غلق التحقيقات التي تجري بشأنها أو مقابل السكوت عن أنشطتها غير المشروعة ولتصريف أية أعمال من أعمالها .
وبالمقابل تدعم مؤسسات الجريمة الموظفين الفاسدين للوصول الى المناصب القيادية العليا سواء عن طريق الدعم في الانتخابات أو استخدام النفوذ لدى القيادات العليا والأحزاب السياسية في حالة التعيين . ويكاد يجمع الباحثون على انه لولا الفساد لما كانت هناك جريمة منظمة مطلقاً، فالفساد هو البيئة التي تنمو فيها ظاهرة الجريمة المنظمة( ).
وتبدو العلاقة واضحة بين الفساد والجريمة المنظمة في تعريف اللجنة الرئاسية الأمريكية بشأن الجريمة المنظمة التي عرفت الجريمة المنظمة بأنها ( جماعة مستمرة من الأشخاص الذين يستخدمون الإجرام والعنف والإرادة المتعمدة للإفساد والحصول على منافع مادية والاحتفاظ بالسطوة ) . ويتحقق كل ذلك في ظل غياب الشفافية والرقابة والمساءلة أو عدم فعاليتها. ( )
إن استمرار العلاقة بين مؤسسات الجريمة المنظمة والمرفق العام رغم تبدل قياداته وموظفيه ، هو خير مثال يستشهد به للدلالة على الانحراف التنظيمي الذي ينسب للمرفق العام ذاته وللدلالة على العلاقة بين الفساد والجريمة المنظمة أيضا .
4ـ السرية والسكوت: فشلت في كثير من الأحيان جهود مكافحة الفساد في مختلف دول العالم ، ذلك أن الفساد جريمة سرية ( ضبابية ) يصعب في كثير من الأحيان إثباتها من خلال الوسائل التقليدية للإثبات والتحقيق ، بالنظر لاحتياط الفاسدين بعدم تركهم ورائهم دليلا ماديا يشير الى تورطهم في هذه الجرائم ، إذ هي تتم في اغلب الأحيان بعيدا عن أعين الناظرين وخلف الأبواب الموصدة ، ويرتكبها في الغالب أشخاص على قدر من الدراية والمعرفة بأساليب الالتفاف على القانون وفي تسخير المعرفة التي يمتلكونها لأغراض دنيئة ، ولذا يعجز ضحية الفساد غالبا عن إثبات دعواه أمام القضاء فيرجع خائبا ومضطرا لان يكون ضحية للفساد في المرات المقبلة أيضا.
ومن جانب أخر فان شركاء جريمة الفساد المستفيدين منها وضحاياها في نفس الوقت ، يتكتمون على هذه الجريمة خشية فقدان المزايا التي اكتسبوها بوساطة الفساد . فمن يحصل على امتياز المرفق العام أو من يحصل على شهادة مزورة أو حكم قضائي لا يستحقه قانوناً لا يمكن إن يُبلغ عن هذه الجريمة ليخسر في النهاية ما كسبه بطريق غير مشروع .
وإزاء هذا التحدي الكبير سعى فقهاء القانون والمعنيين بجهود مكافحة الفساد الى إيجاد أنظمة قانونية جديدة تتسم بالفعالية والمرونة في التطبيق تكفل الحد من هذه الظاهرة الخطيرة الى ابعد مدى ممكن ودراسة أسباب الفشل الذي اعترى وسائل مكافحة الفساد.
5ـ استخدام النفوذ( ) : تتميز هذه الجريمة في أنها ترتكب غالباً من قبل رجال السياسية والأحزاب والسلطة العامة عموماً ، ممن لديهم القابلية على النفاذ إلى مؤسسات الدولة الرسمية والقضائية والعسكرية ، والتأثير عليها بما يمتلكونه من نفوذ وسلطة وهيمنة( ) ، فضلا عن قابليتهم على الحيلولة دون تقديم الشكاوى بالتهديد والوعيد أو بدفع الأموال لشراء السكوت .
6ـ الواجهة الإجرامية( ) : تمارس جرائم الفساد باستخدام أساليب ملتوية منها، أنها تمارس بوساطة شركاء يمثلون الواجهة للفاسد الأصلي الذي يشغل عادة مركزاً مرموقاً أو وظيفة ذات صلة مباشرة بحاجات الناس كالرخص الإدارية ، ويبقى الفاسد الأصلي خارج مدى الرؤيا والمسؤولية . ويظهر الفاسد عادة أمام الناس ووسائل الإعلام بمظهر الشريف الطاهر .
ويُختار الشركاء عادة من بين البسطاء أو من ذوي النفوس الضعيفة والضمائر المنحطة الذين يسهل التخلص منهم في نهاية الأمر وذلك بإلقاء المسؤولية الجنائية على عاتقهم أو قتلهم إذا اقتضى الأمر .
7ـ عدم اللجوء الى العنف على الأغلب : تمتاز الغالبية العظمى من جرائم الفساد بأنها تتم باتفاق بين الجاني والضحية ، بل إن الضحية هو الذي يسهل في الغالب ارتكابها عليه ويوفر الظروف الملائمة لها،لتحقيق مصالحه غير المشروعة أو لتحقيق مصالحه المشروعة بوسائل غير مشروعة ، وعلى هذا النحو لا حاجة للعنف .ذلك إن جرائم العنف غالباً ما تلفت انتباه المجتمع وتكون محل اهتمام السلطات مما يؤدى الى كشف الجريمة ودوافعها .
وسبق القول إن هذه الجريمة ترتكب من قبل أشخاص على قدر من الفهم والقابلية على تدارك الأوضاع السيئة ، وعلى هذا النحو فأنهم لا يلجئون الى العنف إلا كحل أخير عندما تتوفر معلومات عنهم لدى آخرين وتشكل خطراً على حياتهم ومستقبلهم المهني وبعد فشل الأساليب الأخرى لحمل صاحب المعلومات على السكوت .
8ـ أنها ظاهرة ذات طبيعة اقتصادية :
تأثير الفساد السلبي على الاقتصاد الوطني أمر متحقق دائما ولذا يبدو انه من مستلزماته بل ونتيجة طبيعية له ولذا فانه يبدو كخاصية من خصائص هذه الجريمة أكثر مما يبدو كأثر من أثاره .ويقلل الفساد من فرص الاعمار والتنمية وفرص الاستفادة من المعونات والقروض الدولية ويخفض من معدلات النمو بصورة كبيرة ، كما يؤدي الى تدهور البنية التحتية والخدمات العامة.وأكد تقرير منظمة الشفافية الدولية لسنة 2005، أن الرشاوى التي يستولي عليها قلة من البشر على حساب غالبية المواطنين، تؤثر بشكل كبير على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل: القضاء على الجوع الذي يعاني منه 1.2 مليار شخص يعيشون على أقل من دولار في اليوم، وتعميم التعليم الابتدائي، بحيث يستوعب 113 مليوناً من الأطفال محرومين من فرص التعليم في العالم، وتخفيض وفيات الأطفال دون سن الخامسة بواقع الثلثين، إذ يموت 11 مليوناً من الأطفال الصغار سنوياً.
ويقول رئيس المنظمة( بيتر ايجن) في عرضه لتقرير عن الفساد لعام 2005، ( يعد الفساد في المشاريع العامة الكبيرة الحجم، عقبة كبيرة أمام التنمية المستدامة، ويعد كارثة كبيرة على الدول المتطورة والنامية على حد سواء"، مضيفاً "أنه عندما يغلب الإنسان المال على القيم، تكون النتيجة إنشاءات رديئة الجودة وإدارة ضعيفة للبنى التحتية، وأن في ذلك مضيعة للمال، ونهبا لموارد الدول، وقتل أرواح في الكثير من الأحيان"، مؤكداً على ضرورة "المحافظة على الأموال والمعونات المخصصة لمشاريع إعادة البناء في بعض الدول، مثل العراق من خطر الفساد"، مضيفاً "يجب أن تكون الشفافية الشعار الأول، وخصوصا في هذا الوقت الذي تقوم فيه الدول المانحة بضخ مبالغ هائلة من أجل إعادة البناء في الدول الآسيوية التي تضررت بفعل مد تسو نامي). ويقول (ايجن) "إن الفضيحة التي تم الكشف عنها في برنامج "النفط مقابل الغذاء"، الخاص بالعراق، أظهرت الحاجة الملحة لوضع قوانين صارمة فيما يتعلق بتضارب المصالح، وأهمية الانفتاح في عملية المناقصات( ).
و تخلص أبحاث معهد البنك الدولي إلى أن أكثر من تريليون دولار أميركي (1000 بليون دولار أميركي) تدفع رشاوى كل عام . وأن هذا الرقم لا يتضمن اختلاس الأموال العامة أو سرقة الموجودات العامة. وتبين أبحاث معهد البنك الدولي أن البلدان التي تكافح الفساد وتحسّن سيادة القانون فيها يمكنها أن تزيد دخولها الوطنية بما قد يبلغ أربعة أضعاف على المدى الطويل ويمكنها أن تخفض وفيات اَلرُّضَّع فيها بنحو 75 في المائة. وان بلدا يبلغ نصيب الفرد فيه من الدخل 2000 دولار ، يمكنه إذا واجه الفساد وعمل على تحسين نظام الإدارة العامة وسيادة القانون فيه ، إن يتوقع زيادة نصيب الفرد من الدخل فيه الى 8000 دولار أمريكي على المدى الطويل ( ) .


المبحث الثاني

إجراءات ما قبل المحاكمة في جرائم الفساد

يقصد بالإجراءات الجزائية تلك الأحكام المتعلقة بتنظيم السلطات المكلفة بالكشف عن مرتكبي الجريمة , والتحقيق معهم , ومحاكمتهم , واستبعاد الأشخاص الذين تثبت براءتهم , أو هي تلك القواعد التي تهتم بالتحقيق وبيان السبل التي تتخذها الأجهزة الحكومية المختصة بالكشف عن الجريمة ومرتكبها بطريق التحقيق معه ثم إحالته إلى المحكمة المختصة لإصدار الحكم عليه وتنفيذه بحقه. ومن اجل الإحاطة بهذه الإجراءات سوف نقسم هذا المبحث إلى ثلاثة مطالب نتناول وسائل تحريك الدعوى الجزائية في المطلب الأول وإجراءات التحري وجمع الأدلة في المطلب الثاني أما المطلب الثالث فسوف نتناول فيه مرحلة التحقيق الابتدائي.


المطلب الأول
وسائل تحريك الدعوى الجزائية في جرائم الفساد
أن دعوى الفساد الإداري والمالي كأية دعوى جزائية تحرك بذات الطريقة التي تحرك بها الأخيرة , والتي حددتها المادة (1/أ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 المعدل,وكما يأتي:-
أولا:الشكوى:
إن دعوى الفساد الإداري والمالي كأية دعوى جزائية , يمكن أن تحرك بوساطة الشكوى بوصفها إحدى وسائل تحريك الدعوى الجزائية .
لم يتضمن قانون هيأة النزاهة رقم (30) لسنة 2011 أي إشارة صريحة تعطي الحق لهيأة النزاهة بتحريك الدعوى الجزائية إلا أنه يمكن استخلاص حق الهيأة في تحريك الدعوى الجزائية من خلال ما يأتي :

أولاً :- إن المادة الأولى من قانون أصول المحاكمات الجزائية أعطت الحق لمن علم بوقوع الجريمة بتحريك الدعوى الجزائية بشكوى منه إلى الجهة المختصة قانوناً , ويمكن عدّ هيأة النزاهة جهة لها حق تحريك الدعوى الجزائية إما بشكوى كونها جهة علمت بوقوع الجريمة من خلال عملها الرقابي بالتعاون مع المفتشين العموميين وديوان الرقابة المالية , أو من خلال قيامها بالتحري عن الجرائم وعلمها بوقوع جريمة من الجرائم الداخلة في اختصاصها لأنها تعد طرفاً فيها , أو بإخبار يقدم منها إلى الجهة المختصة قانوناً بالنسبة للجرائم الأخرى التي علمت بها والتي لا تدخل في اختصاصها .
ثانياً :- إن المادتان (19،20) من قانون هيأة النزاهة وكذلك المادة (12) من اللائحة التنظيمية رقم (1) لسنة 2005 والخاصة بالكشف عن المصالح المالية( ) , أعطت الحق للهيأة بالملاحقة الجزائية وفقاً لأحكام القانون , إزاء من يمتنع عن تقديم الكشف عن مصالحه المالية وتكون الملاحقة الجزائية من خلال تحريك الشكوى ضده علماً أن الممتنع يعرض نفسه للمسؤولية الجزائية وفقاً لنص المادة (329/2) , أو المادة (240) من قانون العقوبات العراقي المعدل( ) .
ثالثاً :- بما أن هيأة النزاهة كجهة تحقيقية إلى جانب الجهات الأخرى التي حددها القانون تتولى التحقيق بالجرائم الداخلة في اختصاصها بوساطة محققيها ، لذا فان لها الحق في تحريك الدعوى الجزائية .
من خلال ما تقدم يمكن اعتبار هيأة النزاهة جهة لها الحق في تحريك الدعوى الجزائية .
اما بخصوص الجهة التي تقدم إليها الشكوى فإن لهيأة النزاهة محققين تابعين لها تتولى الهيأة تعيينهم , ويلحظ أن قانون هيأة النزاهة لم يحدد الشروط والصفات الواجب توافرها فيهم, ونرى ضرورة توافر الشروط والصفات ذاتها الواجب توافرها في المحققين التابعين لمجلس القضاء الأعلى .
من خلال ما تقدم تعد هيأة النزاهة جهة تقدم إليها الشكوى ؛ لأنها مؤسسة تضم عدداً من المحققين , فضلاً عن الجهات التي حددها القانون , وتتولى التحقيق فيها بوساطة محققيها في حدود الجرائم الداخلة في اختصاصها , وأكدت على ذلك إجراءات استلام مزاعم الفساد الصادرة عن هيأة النزاهة( ) .
وبخصوص قيود الشكوى في دعاوى الفساد الإداري والمالي فان الأصل أن الشكوى تقدم ممن له الحق في تقديمها ويترتب عليها تحريك الدعوى الجزائية, إلا أن هناك قيوداً ترد على هذه الوسيلة تحول دون تحريك دعوى الفساد الإداري والمالي ابتداءً إلا بعد الحصول على إذن خاص يصدر من جهة ذات اختصاص حددها القانون هذا من جهة , ومن جهة أخرى هناك قيد آخر يحول دون إحالة المتهم (الموظف) على المحكمة المختصة إلا بعد الحصول على الإذن من الجهة المختصة .
ويقصد بالإذن بأنه : (( عمل إجرائي يصدر عن هيأة عامة يسمح بتحريك الدعوى الجزائية ضد متهم ينتسب إليها أو بإحالته على المحكمة عن جريمة ارتكبها أثناء تأديته لوظيفته الرسمية أو بسببها ))( ) , أو هو : (( تصريح يصدر عن سلطة عامة تعبر به عن عدم اعتراضها على تحريك الدعوى الجزائية ورفعها ضد شخص ينتمي إليها ))( ) .
وغاية اشتراط التشريعات الحصول على الإذن لتحريك الدعوى الجزائية , أو إحالتها على المحكمة المختصة هي الحاجة إلى ضمان نوع من الحماية لطائفة معينة من الأشخاص ومما يقومون به من أفعال تعد جرائم ؛ وذلك مراعاةً للمركز الذي يشغله المتهم الذي يباشر وظيفة عامة في الدولة , إذ يقتضي الأمر أن يضمن له نوع من الحرية في مباشرة وظيفته كنوع من الحصانة( ) , ولكن هذه الحصانة ليست موضوعية أبدية بل هي حصانة إجرائية تمنع اتخاذ أي إجراء جزائي اتجاه من يتمتع بها حتى تأذن الجهة التي يعينها القانون باعتبارها الجهة الأقدر على تمحيص مدى جدية الاتهام.
وتجدر الإشارة إلى أن المشرّع العراقي لم ينص على استحصال الإذن لغرض تحريك الدعوى الجزائية في قانون واحد , وإنما نص عليها في قوانين مختلفة , منها على سبيل المثال :-
1. الدستور العراقي لعام 2005 :منح الدستور بموجب المادة (63) منه حصانة إجرائية لعضو مجلس النواب إذ لم يجز إلقاء القبض عليه إلا بعد الحصول على موافقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب خلال الفصل التشريعي , أو موافقة رئيس مجلس النواب خارج الفصل التشريعي على رفع الحصانة عنه( ), عدا حالة التلبس بجناية إذ يجوز فيها إلقاء القبض عليه , وهذا هو اتجاه غالبية دساتير دول العالم( ) .
2. القانون الجنائي :منعت المادة (14/1) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل , تحريك الدعوى الجزائية وإجراء التعقيبات القانونية بحق من ارتكب جريمة خارج العراق إلا بعد الحصول على إذن من رئيس مجلس القضاء الأعلى( ) , كما أكد ذلك قانون أصول المحاكمات الجزائية في المادة (3/ب) منه( ) .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية( ) الغى المادة (136/ب) منه،وحسنا فعل المشرع في ذلك، لأنها تشكل عائقاً أمام عمل الجهات المختصة، وتقف حائلاً أمام اتخاذ الإجراءات القانونية بحق المفسدين , والمقصرين , والمنتفعين دون وجه حق من المال العام , وكذلك تشجع الموظفين على ارتكاب الجرائم التي تتعلق بوظائفهم , وتوفر لهم فرصة لإتلاف أدلة الجرائم , وتسهل عملية هروبهم إلى الخارج .
ثانيا:الإخبار :
إن غالبية التشريعات لا تشترط في الإخبار شكلية معينة( ) , إذ يمكن أن يكون الإخبار تحريرياً , أو شفوياً مرسلاً بطريق البريد , أو الهاتف , أو منشوراً بإحدى الصحف , أو المجلات إذ لا أهمية للطريقة التي يقدم فيها الإخبار( ) , ما دامت الغاية منه إخطار السلطات المختصة بواقعة يجرمها القانون ولا يهم العدالة في شيء أن يأتي الإخبار في قالب , أو صيغة محددة( ), ومع ذلك فإن بعض التشريعات اشترطت الشكلية في الإخبار ومنها التشريع الفرنسي فقد اشترط أن يكون الإخبار كتابياً ومقدماً إلى المدعي العام وأن يحرر من صاحبه , أو وكيله , أو المدعي العام إذا طلب إليه ذلك وأن يوقعه المخبر , أو وكيله وأن تؤخذ بصماته إذا كان لا يعرف الكتابة وعند الامتناع عن التوقيع يشار إلى ذلك في المحضر إلا أن المشرّع الفرنسي عدل عن هذه الشروط الشكلية في قانون الإجراءات الجنائية( ) . واشترط المشرّع اللبناني في الإخبار شروطاً شكلية وموضوعية فمن الشروط الشكلية : لابد أن يكون الإخبار مكتوباً ويقوم بتحريره صاحبه , أو وكيله, أو النائب العام , ولابد أن يكون موقعاً عليه ممن حرره , أما من حيث الشروط الموضوعية : فلابد أن يكون منطوياً على جريمة سواء كانت جناية , أو جنحة , أو مخالفة( ) .
وحسناً فعلت التشريعات التي لم تشترط الشكلية في الإخبار , ومنها التشريع العراقي , فالسرعة في الإخبار أمر ضروري جداً حتى لا تفوت الغاية الجوهرية من الإخبار , وهي تمكين الجهات المختصة من اتخاذ الإجراءات الفورية اللازمة عند وقوع الجريمة , أو التدابير المانعة من وقوعها( ) , وبغية توسيع صلاحيات هيأة النزاهة في الكشف عن الجرائم الداخلة في اختصاصها فقد أضافت طرقاً أخرى لتلقي الإخبار وهي كالآتي :
1. الخط الساخن
ويراد به الخط المخصص من قبل الهيأة لغرض تلقي الإخبارات عن أي حالة فساد عن طريق الهواتف النقالة , أو المحمولة( ) , أو عن طريق الهواتف الأرضية التي تعلن عنها الهيأة عن طريق وسائل الإعلام المختلفة , وتتلقى الهيأة الإخبارات عن مزاعم الفساد , بجميع وسائل إيصال المعلومة بضمنها الهاتف والبريد الإلكتروني , ووسائل الإعلام المسموعة , والمرئية , والمقروءة وغيرها( ) .
وتجدر الإشارة إلى أن كل مكتب من مكاتب هيأة النزاهة في المحافظات يوجد فيه قسم خاص يسمى قسم الخط الساخن يتم من خلاله استقبال الشكاوى , والإخباريات , والمعلومات من المواطنين من خلال عدة شعب , وهي كل من شعبة الهاتف , البريد الإلكتروني, المقابلات , البريد الخارجي , الرصد الصحفي , وتكون عملية استقبال المعلومات عن طريق الاتصال المباشر بين المواطنين والموظف المسئول عن استقبال المكالمات الهاتفية , إذ يقوم الموظف المختص بإدراج المعلومات في نموذج خاص ويتم تسجيل الإخبار في دفتر صادرات الإخبارات ويحتفظ برقم واسم المخبر للحفاظ على هوية المخبر ثم يحول بعد ذلك إلى شعبة التحليل والتكييف لغرض إصدار التوجيه الخاص من قبل المحقق المختص( ) .
2. الإخبار السري
يعد الإخبار السري من الطرق المتعارف عليها اليوم , إذ أن هناك أسباباً عديدة تحمل المخبر على إخفاء شخصيته وعدم إظهارها للمحقق المختص, منها أن المخبر قد يخشى سطوة الجاني , أو أقاربه للانتقام منه في الوقت الذي يدفعه الواجب إلى الإخبار عمن ارتكب الجريمة فيعمد إلى الإخبار عن وقوع الجريمة واسم مرتكبها , كذلك أن المخبر إذا أظهر نفسه للمحقق وعرف بهويته فإن المحقق لابد وأن يستدعيه لأداء الشهادة عما اقترفه الجاني إلا أن المخبر لا يرغب في ذلك( ) , مما يشكل عاملاً سلبياً للمواطن ويدفعه إلى التردد والإحجام عن الإخبار( ), وتلافياً لهذا الإشكال فقد عُدلت المادة ( 47 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي( ) , وذلك لتبسيط إجراءات الإخبار وحماية المخبرين في بعض الجرائم المهمة إذ أجاز للمخبر في الجرائم الماسة بأمن الدولة الداخلي والخارجي وجرائم التخريب الاقتصادي , والجرائم الأخرى المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد , أو المؤقت أن يطلب عدم الكشف عن هويته وعدم عَدَّهُ شاهداً , كذلك تشدد المشرّع العراقي تجاه المخبر السري في حالة ثبات عدم صحة إخباره بالنظر لما يتعرض له المواطن من أضرار أدبية ومادية من أصحاب النفوس الضعيفة لاتخاذهم الإخبار السري بوصفها مهنة وبغية الحد منها ومنعاً لتضليل القضاء , عُـــــــدلت المادة ( 243) من قانون العقوبات العراقي( ) .
وتجدر الإشارة إلى أن هيأة النزاهة أجازت للمكاتب التابعة لها استلام الإخبارات واتخاذ جميع التدابير اللازمة والمناسبة والضرورية لحماية هوية المخبرين إلا إذا تنازل المخبر عن هذه الحماية( ) , أما إجراءات استلام مزاعم الفساد النافذة في 1/10/2008 فقد أوجدت حماية كافية للمخبرين إذ أوجبت أن يكون هنالك سجل خاص للمخبرين السريين ويكون بعهدة مدير المكتب وفي حالة غيابه , أو عدم وجوده لأي سبب يكون بعهدة من يحل محله ويتولى مدير المكتب استقبال المخبر السري وأخذ اسمه وعنوانه ومحل إقامته ورقم هاتفه ثم إحالته إلى المحقق لتدوين أقواله ،إلا أنه لا يعطي للمحقق سوى رقم المخبر السري من سجل هويات المخبرين السريين ويقوم المحقق بتدوين أقواله استناداً إلى رقمه في السجل دون أن يكون له الحق في سؤاله عن اسمه أو أي معلومات لكشف شخصيته ولا يجوز الإطلاع على سجل المخبرين السريين إلا من قبل القضاء , أو رئاسة الهيأة فحسب , ويتحمل مدير المكتب , أو من يحل محله مسؤولية إفشاء اسم المخبر السري , أو هويته إذا لم يثبت مسؤولية جهة أخرى( ) .
من خلال ما تقدم يلحظ أن الإجراءات التي اتبعتها هيأة النزاهة في حماية المخبرين السريين ومكافأتهم تعد خطوة مهمة في تشجيع المواطنين على الإخبار عن الجرائم تأكيداً لتضافر الجهود في مكافحة الفساد الاداري والمالي الذي تعاني منه الدولة في عهدها الجديد .
أما بالنسبة للجهة التي يقدم إليها الإخبار , فإن الأصل في الإخبار أنه يقدم إلى كل جهة لها صلاحية إجراء التحقيق في الجرائم( ) , وقد حدد المشرّع العراقي الجهات التي يقدم إليها الإخبار وهم كل من قاضي التحقيق , أو المحقق , أو الإدعاء العام , أو أحد مراكز الشرطة( ) ويمكن أن يقدم الإخبار إلى عضو الضبط القضائي , إذ أن من واجباته قبول الإخبارات والشكاوى( ) , أي أن الجهات التي يقدم إليها الإخبار هي ذات الجهات التي يمكن أن تقدم إليها الشكوى والتي سبق وأن أشرنا إليها .
وبما أن الإخبار يقدم إلى أي جهة لها صلاحية التحقيق في الجرائم لذا يمكن تقديم الإخبار إلى هيأة النزاهة بوصفها إحدى الجهات التي تملك صلاحية التحقيق في الجرائم , إذ تتولى مكاتب الهيأة في المحافظات تسجيل الإخبارات الواردة إليها بجميع وسائل إيصال المعلومات , ويمكن لمدير عام التحقيقات , ومدير المكتب حفظ الإخبار من دون اتخاذ أي إجراء بشأنه إذا لم يكن يتضمن الإيحاء بوقوع جريمة , أو اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأنه إذا تضمن الإخبار وقوع جريمة داخلة في اختصاص الهيأة , كذلك لمدير عام التحقيقات , أو مدير المكتب إحالة الإخبارات التي تتضمن جرائم لا تدخل في اختصاص الهيأة إلى الجهات المختصة( ) .

المطلب الثاني
التحري وجمع الادلة عن جرائم الفساد الإداري والمالي
الأصل أن من يقوم بإجراءات التحري وجمع الأدلة عادة , هم أعضاء الضبط القضائي( ) , إذ يتولون قبول الإخبار والشكاوى التي ترد إليهم وكذلك تقديم المساعدة لقضاة التحقيق والمحققين وضباط الشرطة ومفوضيها وتزويدهم بما يصل إليهم من معلومات عن الجرائم وضبط مرتكبيها وتسليمهم إلى السلطات المختصة( ) ,ويمكن القول أن إجراءات التحري عن جرائم الفساد تخضع عموماً لنفس إجراءات الضبط والتحري المقررة قانوناً لغيرها من الجرائم غير أن القانون الخاص بهيأة النزاهة أعطى صلاحية التحري عن هذه الجرائم لأعضاء ضبط متخصصين تابعين لها , والذين لا تقتصر وظيفتهم على التحري عن الجرائم , إنما يقومون بمهمة الإرشاد والتحذير وكل ما من شأنه منع وقوع الجريمة , ونظراً لما تتسم به الجرائم التي تعد من قضايا الفساد الإداري والمالي من سرية وكتمان وتتم غالباً بعيداً عن أعين الناظرين , وأن مرتكبها غالباً ما يكون على علم ودراية بالقانون ؛ لذلك فإنه يحرص على أن لا يترك أثراً عند ارتكابه للجريمة ؛ لذا فإن من يخول وظيفة الضبط القضائي للتحري عن هذه الجرائم , يجب أن يكون على دراية وخبرة كافية في المجال الذي يعمل فيه , ويمتلك معلومات تمكنه من الكشف عنها , أي تصبح الحاجة ضرورية إلى الاستعانة بأعضاء ضبط متخصصين في مجال الكشف والتحري عن هذه الجرائم ؛ لأنه يتعذر كثيراً على أعضاء الضبط القضائي ذوي الاختصاص العام الكشف عنها والبحث عن أدلتها وتعقب مرتكبيها كون ذلك يتطلب تخصصاً مستمداً من تكوين وتأهيل وإعداد خاص وخوض تجربة في تلك المجالات قد لا تتوفر في أعضاء الضبط القضائي العام( ) , الذين تنقصهم الخبرة ولا تتوفر فيهم الضمانات الكافية للتطبيق السليم للقانون كون أغلبهم من رجال الشرطة( ).
لذا فقد استحدثت هيأة النزاهة في كل مكتب من مكاتبها في المحافظات قسماً خاصاً يتولى التحري عن الجرائم ومتابعة الإخبارات التي سبق وأن استلمها من الخط الساخن وذلك بالتعاون مع مكاتب المفتشين العموميين في الوزارات والدوائر ذات العلاقة للتأكد من صحتها , أو التحري عنها وكذلك متابعة الإجراءات المتخذة من قبل اللجان التحقيقية المشكلة بصدد الإخبارات بعد التأكد من وجود الفساد المالي أو الإداري , ويتولى المحقق المختص التحقيق في الشكوى , أو الإخبار ويقوم بالتحري بنفسه أو بوساطة التحرريين المنسبين بمعيته فإذا تيقن من وجود جريمة وتمكن من جمع أدلة وقرائن تشير إلى نسبتها إلى شخص ما , وجب حين ذاك تسجيل الإخبار , أو الشكوى في سجل القضايا الجزائية وعرضها على محكمة التحقيق بلا تأخير( ) , إذ أن إجراءات التحري ليس لها صفة قضائية بل هي مجرد دلائل أو قرائن يجوز جمعها في أي وقت حتى بعد غلق الدعوى , أو إحالتها إلى المحكمة المختصة ولم يضع المشرّع لها قيوداً معينة , أو يحدد أوضاعاً خاصة لإجرائها( ) .
مما تقدم نستطيع القول أن الجرائم التي تعد من قضايا الفساد الإداري والمالي من الجرائم الخطيرة التي تهدد المجتمع , ويتسم ارتكابها بالسرية والكتمان , لذا فإن هيأة النزاهة أعطت سلطة التحري عن هذه الجرائم إلى أعضاء ضبط متخصصين يتمتعون بعلمية ومهنية عالية في العمل وذلك للتفريق بين الأعمال التي تعد من الأخطاء الإدارية , أو المالية , أو المحاسبية , أو القانونية والتي لا ترقى إلى مستوى الجرائم وبين الأفعال التي تعد من جرائم الفساد وفقاً لنصوص قانون العقوبات , والاقتصار على ملاحقة هذه الجرائم , وترك المساءلة عن الجرائم الأخرى للجهات المعنية بها طبقاً لأحكام القانون( ) .
وبخصوص ضوابط عمل هيأة النزاهة في مرحلة التحري عن الجرائم فان الأصل أن إجراءات التحري وجمع الأدلة يتعين مباشرتها ممن لهم صفة الضبط القضائي , إلا أنه ولاعتبارات عدة وبموجب قوانين خاصة يمنح المشرّع بعض الموظفين المتخصصين هذه الصفة ويخولهم الحق في القيام بأعمال الضبط القضائي في جرائم محددة( ) .
وترد على ما يقومون به من إجراءات في التحري عن الجرائم , ضوابط تحكم أعمالهم في هذا الميدان , كالآتي :
أولاً : مشروعية وسائل التحري
لم تورد قوانين الإجراءات الجنائية( ) , وسائل التحري على سبيل الحصر فالمشرّع العراقي لم يبين أو يحدد الوسيلة التي بإمكان من يقوم بوظيفة التحري اللجوء إليها ؛ بل أجاز اتخاذ جميع الوسائل التي تكفل المحافظة على أدلة الجريمة( ) , أي أشار بكيفية تتسع لكل الإجراءات التي يراها ضرورية( ).
ويراد بمشروعية الوسيلة , أن لا يتبع القائم بالتحري سلوكاً من شأنه التعرض لحرية الأفراد , أو لحرمة مساكنهم فالمساس بهذه الحرمات , أو الحريات أمر مرفوض إلا في الأحوال التي يجيزها القانون , ولتحقيق هذه الغاية على القائم بالتحري الالتزام بعدة مبادئ دستورية وقانونية حتى لا يطال تحرياته البطلان لعدم مشروعية الوسيلة( ) , ولكي تكون الوسيلة مشروعة يجب أن تكون مطابقة للقانون سواء في نصوصه أو مبادئه أو روحه( ) , ويعد من قبيل الوسائل المشروعة الاستعانة بالمخبرين السريين لجمع المعلومات , أما الوسائل غير المشروعة فهي كثيرة مثالها التحريض الصوري على ارتكاب الجرائم من أجل ضبطها وتسهيل التحري على مرتكبيها( ) .
ومن الجدير بالذكر هنا أن مرتكب الجرائم التي تعد من قضايا الفساد الإداري والمالي لم يعد يرتكب الجريمة بالأساليب التقليدية ؛ بل أصبح يستخدم من الوسائل العلمية الحديثة ما يمكّنه من ارتكاب الجريمة بصورة أكثر دقة وأماناً له , ويمنحه فرصة أكبر للهرب من عقاب المجتمع , لذا كان على أجهزة البحث الجنائي والمناط بها الكشف عن الجرائم استخدام وسائل وأساليب حديثة( ) في الكشف عنها , خصوصاً وأن هذه الجرائم قد لا تترك آثاراً ماديةً في محل وقوعها لذلك لا جدوى من الوسائل التقليدية في الكشف عنها( ) .
وبما أن السلطة التي تقوم بالتحري ملزمة بإتباع الوسائل المشروعة التي لا تمس حرية المتهم , أو شخصه , أو حرمة حياته الخاصة التي كفلها الدستور( ) , إلا أن من أبرز الوسائل التي ظهرت في عالمنا اليوم بصفة عامة والتي أصبحت من أدق الوسائل التي تؤدي إلى الكشف عن مرتكبي الجرائم , أو مدبريها , أو الضالعين في القيام بها هي (التسجيل الصوتي) إذ يلجأ بعض المجرمين إلى استخدام أجهزة الهاتف المحمول ( الموبايل ) , في عقد الصفقات , أو طلب خدمات من القائمين على العمل وطلب التعامل معهم( ) .
والتساؤل الذي يثار هنا , هو مدى مشروعيّة استخدام وسيلة التسجيل الصوتي , مراقبة المحادثات التلفونية , تسجيلها للكشف عن هذه الجرائم ؟
أثارت هذه المسألة جدلاً حول مشروعيتها , ففي فرنسا نجد أن المشرّع الفرنسي لم يتناول المحادثات التلفونية وتسجيلها , إلا أن الرأي الراجح في الفقه الفرنسي ذهب إلى أنه ما دام السائد هو جواز الإطلاع على الرسائل لمصلحة التحقيق فإن ذلك يجب أن ينطبق على الاتصالات التلفونية , إلا أن هذا الرأي قصرها على جرائم معينة , وهي تلك التي لا يتسنى إثباتها بالوسائل الأخرى , مثل جريمة الرشوة والتهديد والابتزاز( ) , ومع ذلك فإن المشرّع الفرنسي بعد التعديل التشريعي لقانون الإجراءات الجنائية قد أجاز لقاضي التحقيق السماح بتسجيل المحادثات التلفونية( ) .
أما المشرّع المصري فقد أجاز لقاضي التحقيق الأمر بمراقبة المحادثات السلكية واللاسلكية وإجراء تسجيلات لأحاديث جرت في مكان خاص متى ما كان في ذلك فائدة لظهور الحقيقة , في جميع الأحوال يجب أن يكون الضبط والاطلاع والمراقبة والتسجيل بناءً على أمر مسبب( ) , إذ تعد هذه الوسيلة مشروعة وأدلتها مشروعة ؛ لكن متى ما روعيت الشروط المنصوص عليها في القانون وبعد الحصول على إذن من القاضي المختص بإجراء المراقبة( ) .
أما المشرّع العراقي فلم يتناول في قانون أصول المحاكمات الجزائية مسألة مراقبة المحادثات التلفونية وتسجيلها , إلا أن الدستور العراقي لعام 2005 أجاز مراقبة المحادثات والتصنت عليها , والكشف عنها لضرورة قانونية وأمنية بعد الحصول على قرار قضائي( ) .
لذا ندعو المشرّع العراقي للأخذ بما أخذ به المشرّع الفرنسي والمصري وإيجاد نص مماثل لنص المادة ( 95 ) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على أن يقتصر ذلك على الجرائم التي يصعب إيجاد الدليل لإثباتها لأنها لا تترك أثراً مادياً , لكونها ترتكب في أجواء من السرية والكتمان جرائم الفساد الإداري والمالي سواء كان ذلك قبل أو بعد وقوعها إذ تستعمل كوسيلة للتحري وجمع الأدلة أما مسألة الدليل الذي تقدمه هذه الوسيلة فيترك تقديره لمحكمة الموضوع .
ثانياً : سرية إجراءات التحري
تشمل إجراءات التحري جمع المعلومات والبيانات الخاصة بالجريمة عن طريق البحث عن مرتكبيها بشتى الوسائل والطرق القانونية المشروعة( ) , مما يساعد السلطة المختصة بالتحقيق على اتخاذ القرار الملائم في شأن الدعوى الجزائية الناشئة عن الجريمة( ) .
وبما أن جرائم الفساد الإداري والمالي من الجرائم التي يصعب إثباتها , وجمع الأدلة ضد مرتكبيها ؛ لذا فإن من الضوابط التي تلتزم بها السلطة المختصة بالتحري عن هذه الجرائم في هيأة النزاهة هو السرية في اتخاذ إجراءات التحري وجمع الأدلة ليس فقط بالنسبة للجمهور فحسب بل أيضاً بالنسبة للمشتبه به.
فضلاً عن ما تقدم فإن إجراءات استلام مزاعم الفساد الصادرة عن هيأة النزاهة( ) , قررت المسؤولية الانضباطية أو الجزائية لكل من زود أي شخص مهما علا شأنه بالمعلومات التحقيقية إلا بالاستناد إلى قرار قضائي استناداً لنص المادة ( 57 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي , لذلك أدعو مشرعنا إلى النص صراحةً على سرية إجراءات التحري لما لها من أهمية في مرحلة التحقيق والتي لا تقل أهمية عنه .


المطلب الثالث
التحقيق في جرائم الفساد
بعد إكمال السلطات المختصة مهمة التحري عن الجرائم وجمع الأدلة بشأنها , وتيقنها من وجود جريمة ما بعد أن تتمكن من جمع أدلة وقرائن تشير إلى نسبتها إلى شخص ما وجب عليها عرضها على محكمة التحقيق المختصة من دون تأخير , أو تقوم بالتوصية إلى لجنة خاصة تسمى (لجنة التوصية بالحفظ)( ) , إذ توصي اللجنة إما بحفظ الإخبار أو توصي بإعادة الدعوى إلى المحقق لإكمال الإجراءات في ضوء توصيات اللجنة , ويتحمل المحقق مسؤولية عرض الدعوى على قاضي التحقيق دون التيقن من وجود جريمة أو أدلة أو قرائن تشير إلى مرتكبها , كما يتحمل مسؤولية التراخي في عرضها بعد توفر الأدلة الكافية خاصة إذا كانت من الدعاوى المهمة( ) , إذ تبدأ بعد ذلك مرحلة التحقيق الابتدائي وهي مرحلة وسط تلي مرحلة التحري وجمع الأدلة وتسبق مرحلة المحاكمة( ) , وهي مرحلة مهمة لا غنى عنها حتى لا يحال على المحاكم من الدعاوى إلا ما كان منها قائماً على سند قوي من الوقائع والقانون( ) .
وسوف نعالج موضوع التحقيق الابتدائي كالآتي:
أولا القيمة القانونية لتحقيق هيأة النزاهة
كثيراً ما يثار في نطاق إجراءات التحقيق الابتدائي مدى التزام السلطة المختصة بالتحقيق , والمسئولة عن تقديم الأدلة واتخاذ الإجراءات الكفيلة لتحقيق ذلك بأن تكون إجراءاتها مطابقة للقواعد القانونية والأصول المرعية في التحقيق والتي ينبغي على السلطة القائمة به التقيد بها في هذه المرحلة( ) , وسلطة التحقيق هي الهيأة التي من حقها قانوناً أن تمارس أعمال التحقيق ؛ لأن هذه الأعمال تمس حقوق الأفراد , وتقيد حرياتهم فلابد من أن يتولاها أشخاص يتمتعون بضمانات عالية تحمي استقلالهم وتكفل لهم مناعة التأثير وتضعهم موضع الحيدة( ) , بين مصلحة الدولة في اقتضاء حقها في العقاب , ومصلحة المتهم في الحفاظ على حقه في الحرية( ) .
لذلك فقد حرص المشرّع العراقي على أن يتولاها قاضي التحقيق بنفسه أو المحقق تحت إشرافه( ) , ولم يتضمن أي استثناءات عليها إلا في حالات نادرة( ), ولا نلحظ أي تطبيقات عملية في الواقع لهذه الحالات , إذ بقيت حالات استثنائية شكلية .
أما جرائم الفساد الإداري والمالي فلا تختلف الإجراءات فيها عن الإجراءات التي تتخذ بالنسبة للجرائم الأخرى , إذ تتبع بشأن التحقيق فيها مجموعة من الإجراءات, إذ يتولى التحقيق فيها قاضي التحقيق المختص وفق أحكام القانون يسمى قاضي تحقيق النزاهة , وينسب حصراً من رئيس مجلس القضاء الأعلى للتحقيق في هذه الجرائم .
كما يتولى التحقيق بعد قاضي التحقيق المختص محققون تابعون لهيأة النزاهة, ويكون لهم ممارسة الصلاحيات المكفولة في قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي لمحققي المحاكم, ولهم ممارسة هذه الصلاحيات في أية منطقة من العراق من دون التقيد بالاختصاص المكاني , وعلى القاضي أن يتعامل معهم بالطريقة نفسها التي يتعامل بها مع محقق المحكمة( ) , ولم ترد في القانون أية شروط , أو صفات يتطلب توافرها في محققي الهيأة , إلا أننا نرى ضرورة أن تتوفر فيهم من الشروط , والأوصاف ما يتطلب توافره في محققي المحكمة( ) .
أما في الواقع العملي فإن هيأة النزاهة تولت تعيين محققين تابعين لها , واشترطت فيهم أن يكونوا حاصلين على شهادة معترف بها في القانون, إلا أن الهيأة في بداية عملها لم تدخلهم أية دورات خاصة كما هو الحال بالنسبة لمحققي المحاكم التابعين لمجلس القضاء الأعلى ؛ ولكنها وبعد استقرار الأوضاع أخذت الهيأة على عاتقها مؤخراً إدخال محققيها دورات في المعهد القضائي , ودورات خاصة لبعضهم خارج العراق( ) .
والجدير بالذكر يكون لمحققي الهيأة ما يكون لمحققي المحاكم الذين يعملون تحت إشراف قاضي التحقيق صلاحية تكليف المتهم بالحضور , وسماع الشهود , وندب الخبراء , واستجواب المتهم وذوي العلاقة , باستثناء أمر القبض أو التوقيف إذ يكون من اختصاص القاضي استناداً لأحكام المادة (92) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي( ) .
فضلاً عن ذلك فإن المشرّع العراقي في المادة ( 50/أ ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية , أعطى للمسئول في مراكز الشرطة سلطة محقق للتحقيق في أية جريمة إذا صدر إليه أمر من قاضي التحقيق , أو المحقق ويكون ذلك في حالة انشغال القاضي , أو المحقق بالتحقيق في جريمة على درجة كبيرة من الخطورة والأهمية وكذلك له أن يمارس التحقيق في بعض الأحيان دون إحالة المخبر على قاضي التحقيق , أو المحقق , متى ما اعتقد أن في إحالة المخبر تأخير للإجراءات قد يؤدي إلى ضياع معالم الجريمة , أو الإضرار بسير التحقيق, أو هروب المتهم على أن يعرض الأوراق التحقيقية على القاضي , أو المحقق في حال فراغه منها , ويكون للتحقيق الذي يجريه المسئول في مركز الشرطة القوة القانونية ذاتها فيما يخص التحقيق الذي يجريه المحقق( ) , لذا فإنه من باب أولى أن يكون التحقيق في الجرائم الداخلة في اختصاص هيأة النزاهة والذي يجريه المحققون التابعون لها ذات القيمة القانونية للتحقيق الذي يجريه محققو المحكمة .
نخلص مما تقدم أن صفة المحقق يمكن أن يتصف بها كل شخص يقوم بعمل من أعمال التحقيق , سواء قام بهذه الأعمال بناءً على تخويل مباشر من قبل المشرّع أم بصورة غير مباشرة بناءً على ندب , أو تكليف من جهة الاختصاص الأصيل وفي نطاق الإجراء الذي يخولون القيام به , إذ تكون للإجراءات التي يقومون بها ذات القيمة القانونية للإجراءات التي يقوم بها صاحب الاختصاص الأصيل .
ثانيا: المركز القانوني لهيأة النزاهة خلال التحقيق وبعد انتهائه
الأصل أن التحقيق الابتدائي من اختصاص قضاة التحقيق , والمحققين الذين يعملون تحت إشرافهم( ) , إذ تنص المادة ( 52/أ ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي (( يقوم قاضي التحقيق بالتحقيق في جميع الجرائم بنفسه أو بوساطة المحققين وله أن ينيب أحد أعضاء الضبط القضائي لاتخاذ إجراء معين )) .
وبهذا المقام نشير إلى أن قانون هيأة النزاهة أعطى للهيأة صلاحية التحقيق في جرائم معينة , التي تعد من قضايا الفساد بوساطة محققيها تحت إشراف القاضي المختص , إلا أن نص المادة ( 14) منه يثير إشكاليات في تحديد المركز القانوني لهيأة النزاهة , إذ أوجب هذا النص على قاضي التحقيق الذي يتولى التحقيق في قضية فساد, أن يقوم بإشعار الدائرة القانونية في الهيأة عند استهلاله التحقيق ويطلعها على سير التحقيق أولاً بأول بناءً على طلبها , ويجوز للهيأة أن تختار في أي وقت تشاء تحمل مسؤولية التحقيق , فإذا اختارت الهيأة أن تتحمل هذه المسؤولية , يحيل قاضي التحقيق ملف القضية بالكامل إلى الهيأة , ويتعاون معها ويعلمها عن القضية ويتوقف عن القيام بالتحقيق الذي كان يجريه .
من خلال هذا النص نجد أن كل قاضي تحقيق يباشر التحقيق في قضية فساد ملزم بإخبار الهيأة وإطلاعها على سير التحقيق أولاً بأول بناءً على طلبها , إلا أن القانون أعطى للهيأة الخيار متى ما شاءت في أن تتولى التحقيق في هذه القضية فإذا اختارت الهيأة ذلك يحال ملف القضية إليها بالكامل وتباشر التحقيق بوساطة محققيها(م/14-ثالثا) .
ولما كانت إجراءات التحقيق تهدف إلى جمع الأدلة , والبحث , والاستقصاء عن الجريمة بعد تلقي الإخبار والشكوى , وهذه الإجراءات جميعها تمس حرية المواطن التي كفلها الدستور( ) , مما يستوجب إصدار قرار قضائي حتى تتمكن من إضفاء الشرعيّة على النشاط التحقيقي , وأن الفصل بين العمل التحقيقي للهيأة وبين القضاء سوف يعدم هذه المشروعيّة هذا من جانب , ومن جانب آخر أنه في حالة وجود متهم موقوف بخصوص إحدى القضايا وطلبت الهيأة تحويل القضية إليها فما هو مصير المتهم , من الذي يمدد موقوفيته , ماذا لو طال أمد التوقيف لأكثر من ربع المدة , أو مدة الستة أشهر( ) , كذلك أن الدستور يوجب أن لا يتم توقيف أي شخص إلا بموجب قرار قضائي( ) , ومن الذي يقرر انتداب محامٍ للمتهم ومن الذي يقرر أتعاب المحامي , علماً أن ذلك مناط حصراً بقاضي التحقيق( ) .
وقد حصل ذلك بالفعل في مكتب تحقيقات البصرة , إذ أن قاضي النزاهة في البصرة أحال الدعوى على محكمة تحقيق المعقل فاستعملت الهيأة صلاحيتها في اختيار إكمال التحقيق طبقاً لأحكام الفقرة (5) من القسم (4) من القانون النظامي( ) , فتوقف قاضي تحقيق المعقل عن إكمال التحقيق طبقاً للنص المذكور , وقرر إحالة الدعوى على الهيأة لإكمال التحقيق فيها, إلا أن قاضي تحقيق النزاهة رفض الإشراف على التحقيق وممارسة دوره فيه بحجة أن قاضي التحقيق الذي يحيل ملف القضية على الهيأة بناءً على طلبها ينبغي أن يتعاون معها , ويعلمها عن القضية , ويتوقف عن التحقيق الذي كان يجريه .
من كل ما تقدم يمكن القول أن حق هيأة النزاهة في إكمال التحقيق , وفقاً لنص المادة (14)/ثالثا) من قانون هيأة النزاهة لا يعني أن تقوم بالتحقيق لوحدها بعيداً عن إشراف القضاء ؛ لأن ذلك يتعارض مع نص المادة ( 51/أ ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي , التي قضت بأن التحقيق يقوم به قاضي التحقيق , أو المحقق تحت إشراف قاضي التحقيق , وبما أن الهيأة ليس فيها قضاة تحقيق فلا يصح إسناد التحقيق إليها لوحدها ؛ لأن ذلك غير ممكن من الناحية القانونية .
وعليه فإن المركز القانوني لهيأة النزاهة يتمثل بكونها جهة تحقيقية تتولى التحقيق الابتدائي في جرائم محددة على سبيل الحصر والتي تعد من قضايا الفساد الإداري والمالي الداخلة في اختصاص الهيأة , وبما أن التحقيق لا يمكن إجراؤه بوساطة جهة تحقيقية فحسب , وإنما يمكن إجراؤه من قبل جهة قضائية لوحدها , أو من جهة تحقيقية تحت إشراف القضاء , وأن الهيأة في تطبيقها للنص محل الدراسة لا تنازع القضاء في اختصاصه , بل هي تنازع المحققين الآخرين في اختصاصهم فهي حينما تختار التحقيق في القضية فإن الذي يترتب على ذلك , هو انتزاع الدعوى من يد المحقق وإيداعها إلى محقق هيأة النزاهة الذي يتوجب عليه أن يستمر بالتحقيق تحت إشراف قاضي التحقيق المختص , وهذا ما ترتبه بوضوح أحكام الجمع بين قانون هيأة النزاهة وقانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي .
أما بعد انتهاء التحقيق الابتدائي واستكمال جميع الإجراءات يصدر قاضي التحقيق واحداً من القرارات يختم بها التحقيق وقد نصت عليها المادة (130) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي النافذ , هي كالآتي( ):
1. رفض الشكوى وغلق الدعوى نهائياً , إذا وجد قاضي التحقيق أن الواقعة المنسوبة إلى المتهم لا يعاقب عليها قانوناً , أو أن الجريمة من الجرائم التي لا تحرك الدعوى الجزائية فيها إلا بشكوى من المجني عليه , وأن المشتكي قد تنازل عن شكواه , أو أن الصلح تم بين المجني عليه والمتهم وكانت الجريمة مما يجوز الصلح فيها دون موافقة القاضي , أو أن المتهم غير مسئول قانوناً بسبب صغر السن , أو غير ذلك من موانع المسؤولية الجنائية( ) .
2. غلق الدعوى مؤقتاً والإفراج عن المتهم إذا كانت الأدلة المعروضة أمام القاضي لا تكفي لإحالة المتهم على المحكمة المختصة .
3. غلق الدعوى مؤقتاً إذا وجد القاضي أن الحادث قد وقع قضاءً وقدراً , أو أن الفاعل مجهول .
4. إخلاء سبيل المتهم في حالة رفض الشكوى , أو الإفراج عن المتهم إذا لم يكن موقوفاً بسبب جريمة أخرى .
5. إحالة المتهم على المحكمة المختصة إذا وجد القاضي أن الواقعة المنسوبة إلى المتهم تشكل جريمة , وأن الأدلة المتحصلة ضده تكفي لمحاكمته .
ولما كانت هيأة النزاهة طرفاً في قضايا الفساد , وبهذا فإن للهيأة حق الطعن بقرارات قاضي التحقيق أمام محكمة الجنايات بصفتها التمييزية خلال ثلاثين يوماً تبدأ من اليوم التالي لصدور القرار( ).
من كل ما تقدم يتضح أن هيأة النزاهة تعد جهة تحقيقية تتولى التحقيق في قضايا الفساد الإداري والمالي تحت إشراف القاضي المختص , فضلاً عن ذلك فأنها تعد طرفاً في قضايا الفساد ويكون لها حق الطعن ومتابعة الدعوى بعد إرسالها إلى قاضي التحقيق للإحالة على محكمة الموضوع , وحتى صدور الحكم الفاصل في الدعوى واكتسابه درجة البتات( ) .


الخاتمة
بعد أن انتهينا من دراسة ( إجراءات ما قبل المحاكمة في جرائم الفساد الإداري والمالي ) , أصبح من الضروري أن نوجزها بخاتمة تتضمن أهم ما توصلنا إليه من استنتاجات ومقترحات , كالآتي :

أولاً : الاستنتاجات
1. يعد الفساد الإداري والمالي ظاهرة عالمية لا تخص مجتمعاً معيناً بذاته , أي ليست بالشيء الجديد , بل موجود بشكل أو بآخر منذ وقت غير محدد , وأنه كظاهرة إجرامية لا يقل خطراً عن الجريمة المنظمة والإرهاب , وغسيل الأموال .
2. يظهر الفساد الإداري والمالي بصورة واضحة في الدول التي تشهد سقوط أنظمتها السياسية ؛ والسبب في ذلك يعود إلى ضعف القانون والرقابة وانعدام الأمن والاستقرار وتدهور الأوضاع وغيرها من الأحوال التي تفسح المجال أمام ضعاف النفوس إلى سرقة واختلاس المال العام .
3. إن مكافحة الفساد الإداري والمالي لا يقتصر على المستوى الوطني فحسب ؛ بل يمتد ليشمل المستوى الدولي , إذ تتعاون الدول من أجل مكافحة هذه الظاهرة , وهذا واضح من خلال انضمام الدول ومن بينها العراق إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2004 .
4. تعد هيأة النزاهة ذات اختصاص نوعي محدد في فئة أو فئات محددة من الجرائم , تتولى التحقيق فيها بواسطة محققيها , غير أن ذلك لا يسلب الاختصاص في التحقيق في هذه الجرائم من سلطات التحقيق الأصلية التي تتولى التحقيق في كافة أنواع الجرائم .
5. إن دعوى الفساد الإداري والمالي كأي دعوى جزائية تحرك بالطريقة ذاتها التي تحرك بها الدعوى الجزائية , إما بناءً على شكوى , أو إخبار .
6. لهيأة النزاهة صلاحية تحريك الدعوى الجزائية , إما بشكوى بالنسبة للجرائم التي تدخل في اختصاصها بوصفها جهة علمت بوقوع الجريمة من خلال عملها الرقابي , أو أثناء قيامها بالتحري عن الجرائم , أو بإخبار يقدم منها إلى الجهة المختصة قانوناً بالنسبة للجرائم الأخرى التي علمت بها , التي لا تدخل ضمن اختصاصها .
7. تعد هيأة النزاهة جهة من الجهات التي يمكن تقديم الشكوى أو الإخبار إليها إلى جانب الجهات الأخرى التي نصت عليها المادة ( 1/أ ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 المعدل .
8. إن لهيأة النزاهة أعضاء ضبط متخصصين يتولون عملية التحري عن جرائم الفساد الإداري والمالي ويلتزمون بذات الضوابط التي يلتزم بها أعضاء الضبط القضائي بوصفهم الجهة صاحبة الاختصاص الأصيل في التحري عن الجرائم .
9. تعد جرائم الفساد الإداري والمالي من الجرائم التي يتسم ارتكابها بالسرية والكتمان ؛ لذلك يصعب كشفها من قبل أعضاء الضبط القضائي ذوي الاختصاص العام , لذا أصبح من الضروري الاستعانة بأعضاء ضبط متخصصين .
10. إن لهيأة النزاهة محققين تابعين لها تتولى الهيأة تعيينهم ويتولون التحقيق الابتدائي في جرائم الفساد الإداري والمالي تحت إشراف القاضي المختص , وأنهم كمبدأ عام يخضعون لرقابته وإشرافه , وكذلك لرقابة وإشراف الإدعاء العام شأنهم شأن محققي المحاكم ومراكز الشرطة .
11. لمحققي هيأة النزاهة صلاحية التحقيق في قضايا الفساد في أي منطقة من العراق دون التقيد بالاختصاص المكاني لسلطات التحقيق المحدد في المادة ( 53 ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي رقم 23 لسنة 1971 المعدل .
12. إن للتحقيق الابتدائي الذي يقوم به محققو الهيأة ذات القيمة القانونية للتحقيق الذي يقوم به محققو المحاكم .
13. تعد هيأة النزاهة جهة تحقيقية مستقلة تتولى التحقيق في قضايا الفساد الإداري والمالي بوساطة محققيها تحت رقابة وإشراف القاضي أو المحكمة المختصة , فضلاً عن ذلك تعد طرفاً في الدعوى ويكون لها ما يكون لأطراف الدعوى .
ثانيا : المقترحات
1. إن المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2004 بموجب القانون رقم 35 لسنة 2004 , تلزم المشرّع العراقي تحقيق المواءمة التشريعية بين هذه الاتفاقية والقانون العراقي , إذ أن هناك بعض الجرائم المنصوص عليها في الاتفاقية والتي تعد من قضايا الفساد لم ينص عليها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 المعدل لذلك ندعو مشرعنا إلى ضرورة الأخذ بها .
2. عدَ قانون هيأة النزاهة الهيأة طرفاً في قضايا الفساد ويلحظ أنه ليس هناك ضرورة من جعل الهيأة طرفاً في قضايا الفساد لوجود الإدعاء العام باعتباره ممثلاً للمجتمع في الدعوى الجزائية , وكان الأفضل منحها حق متابعة الدعوى الجزائية للأغراض الإحصائية .
3. ضرورة تفعيل الفصل الرابع من قانون هيأة النزاهة حول الكسب غير المشروع وتطبيقه على كل الفئات التي تم ذكرها في المادة (17) منه .في سبيل رفع مستوى النزاهة والحفاظ على المال العام ومحاربة الفساد
4. أيدنا إلغاء نص المادة ( 136/ب ) من قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي ؛ لأنها تشكل عائقاً أمام عمل هيأة النزاهة ؛ بسبب الدعاوى الكثيرة التي تبذل الهيأة فيها جهداً كبيراً في التحري , والتحقيق , وتكون الأدلة كافية للإحالة على المحكمة المختصة, إلا أن عدم الحصول على موافقة الوزير المختص تؤدي إلى وقف الإجراءات القانونية , وغلق التحقيق نهائياً , إذ تشجع هذه المادة على الفساد الإداري والمالي من جانب ومن جانب آخر تشكل مخالفة صريحة للدستور ؛ لأنها تخل بمبدأ استقلال القضاء .
5. ندعو إلى تطوير وسائل الكشف عن الجرائم , خصوصاً الجرائم التي يصعب إيجاد الدليل لإثباتها ؛ لأنها لا تترك آثاراً مادية ملموسة , أو لكونها تتم بصورة سرية كالجرائم الداخلة في اختصاص هيأة النزاهة , لذا أدعو مشرّعنا إلى إيجاد نص مماثل لنص المادة ( 95 ) من قانون الإجراءات الجنائية المصري والذي يجيز مراقبة المحادثات التلفونية وتسجيلها بناءً على أمر مسبب , وإذا روعيت الشروط المنصوص عليها في القانون والحصول على إذن بالمراقبة من القاضي المختص , إذ لم يتضمن قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي مثل هذا النص .
6. ندعو مشرّعنا الى النص بصورة صريحة في قانون أصول المحاكمات الجزائية العراقي على سرية إجراءات التحري وجمع الأدلة وذلك لما لها من أهمية في إجراءات التحقيق والكشف عن الجرائم .















الهوامش